وعن الاختيار وأهميته في التفريق بين الانسان والحيوان جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله تعالى عن طائر "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" ﴿الأنعام 38﴾ فمحصل حديث الاختيار أن الإنسان إذا لم يتميز عنده بعض الأمور التي يتصرف فيها أنها نافعة أو ضارة ميز ذلك بالتروي والتفكر فاختار أحد الجانبين أو الجوانب، وأما لو تميز من أول الأمر إرادة ففعله من غير مهل ولم يحتج إلى ترو أصلا فالإنسان يختار ما يرى نفعه بترو أو من غير ترو ولا تروي إلا لرفع الموانع عن الحكم. ثم إنك إذا تأملت حال أفراد الإنسان المختارين في أفعالهم وجدتهم ذوي اختلاف شديد في مبادئ اختيارهم أعني الصفات الروحية والأحوال الباطنية من شجاعة وجبن وعفة وشره ونشاط وكسل ووقار وخفة، وكذا في قوة التعقل وضعفه وإصابة النظر وخطائه فكثيرا ما يرى الشره نفسه مضطرة مسلوبة الاختيار في موارد يشتهي الانهماك فيها لا يعبأ بأمرها العفيف المتطهر، وربما يرى الجبان أدنى أذى يصيبه في مهمة أو مقتلة عذرا لنفسه ينفي عنه الاختيار، ولا يرى الشجاع الباسل الآبي عن الضيم الموت الأحمر وأي زجر بدني أمرا فوق الطاقة، ولا يرى لأي مصيبة هائلة في سبيل مقاصده من بأس، وربما اختار السفيه خفيف العقل بأدنى تصور، واه ولا يرى العاقل اللبيب ترجيح الفعل بأمثال تلك المرجحات إلا تلهيا ولعبا، وأفعال الصبيان غير المميزين اختيارية معها بعض التروي ولا يعبأ بها وبأمرها البالغ الرشيد، وكثيرا ما نعد في محاوراتنا فعلا من أفعالنا اضطراريا أو إجباريا إذا قارن أعذارا اجتماعية غير ملزمة بحسب الحقيقة كشارب الدخان يعتذر بالعادة، والنومة يعتذر بالكسل والسارق أو الخائن يعتذر بالفقر. وهذا الاختلاف الفاحش في مبادئ الاختيار وأسبابه والعرض العريض في مستوى الأفعال الاختيارية هو الذي بعث الدين وسائر السنن الاجتماعية أن يحدوا الفعل الاختياري بما يراه المتوسط من أفراد المجتمع الإنساني اختياريا، ويبنوا على ذلك صحة تعلق الأمر والنهي والعقاب والثواب ونفوذ التصرف وغير ذلك، ويعذروا من لم يتحقق فيه ما يتحقق في الفعل الاختياري الذي يأتي به الإنسان المتوسط من المبادي والأسباب، وهو المتوسط من الاستطاعة والفهم. فهذا الوسط المعدود اختيارا النافي لاختيارية ما دونه إنما هو كذلك بحسب الحكم الديني أو الاجتماعي المراعى فيه مصلحة الدين أو الاجتماع وإن كان الأمر بحسب النظر التكويني أوسع من ذلك.
وعن ضعف الأختيار عند الحيوان وقوته عند الانسان جاء في تفسير الميزان: والإمعان فيما تقدم يعطي أن يجزم بأن الحيوان غير الإنسان غير محروم من موهبة الاختيار في الجملة وإن كان أضعف مما نجده في المتوسط من الناس من معنى الاختيار وذلك لما نشاهده في كثير من الحيوانات وخاصة الحيوانات الأهلية من آثار التردد في بعض الموارد المقرونة بالموانع من الفعل وكذا الكف عن الفعل بزجر أو إخافة أو تربية، فجميع ذلك يدل على أن في نفوسها صلاحية الحكم بلزوم الفعل والترك، وهو الملاك في أصل الاختيار وإن كان التروي ضعيفا فيها جدا غير بالغ حد ما نجده في الإنسان المتوسط. وإذا صح أن الحيوان غير الإنسان لا يخلو عن معنى الاختيار في الجملة وإن كان ضعيفا فمن الجائز أن يجعل الله سبحانه المتوسط من مراتب الاختيار الموجودة فيها ملاكا لتكاليف مناسبة لها خاصة بها لا نحيط بها، أو يعاملها بما لها من موهبة الاختيار بنحو آخر لا معرفة لنا به إلا أنه فيها بنحو يصحح الإنعام عليها عند الموافقة، ومؤاخذتها والانتقام منها عند المخالفة بما الله سبحانه أعلم به. وقوله تعالى: "ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ" ﴿الأنعام 38﴾ جملة معترضة، وظاهرها أن المفرط فيه هو الكتاب، ولفظ "مِنْ شَيْءٍ" ﴿الأنعام 38﴾ بيان للفرط الذي يقع التفريط به، والمعنى لا يوجد شيء تجب رعاية حاله والقيام بواجب حقه وبيان نعته في الكتاب إلا وقد فعل من غير تفريط، فالكتاب تام كامل. والمراد بالكتاب إن كان هو اللوح المحفوظ الذي يسميه الله سبحانه في موارد من كلامه كتابا مكتوبا فيه كل شيء مما كان وما يكون وما هو كائن، كان المعنى أن هذه النظامات الأممية المماثلة لنظام الإنسانية كان من الواجب في عناية الله سبحانه أن يبني عليها خلقة الأنواع الحيوانية فلا يعود خلقها عبثا ولا يذهب وجودها سدى، ولا تكون هذه الأنواع بمقدار ما لها من لياقة القبول ممنوعة من موهبة الكمال. فالآية على هذا تفيد بنحو الخصوص ما يفيده بنحو العموم، قوله تعالى: "وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً" (الإسراء 20) وقوله: "ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ" (هود 56).
وعن حشر المخلوقات منها الدواب والطيور والانسان يقول العلامة السيد الطباطبائي في تفسيره الآية الأنعام 38: وإن كان هو القرآن الكريم وقد سماه الله كتابا في مواضع من كلامه، كان المعنى أن القرآن المجيد لما كان كتاب هداية يهدي إلى صراط مستقيم على أساس بيان حقائق المعارف التي لا غنى عن بيانها في الإرشاد إلى صريح الحق ومحض الحقيقة لم يفرط فيه في بيان كل ما يتوقف على معرفته سعادة الناس في دنياهم وآخرتهم كما قال تعالى: "وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ" (النحل 89). ومما يجب أن يعرفه الناس في سبيل تفقه أمر المعاد أن يتبينوا كيفية ارتباط الحشر وهو البعث يوم القيامة على نهج الاجتماع بالتشكل الأممي في الدنيا، وأن ذلك هو الذي يجدونه بين أنفسهم ويجدونه بين سائر الأنواع الحيوانية، ويترتب عليه دون ذلك فوائد أخرى كالتبصر في توحيد الله تعالى ولطيف قدرته وعنايته بأمر الخليقة والنظام العام الجاري في العالم، ومن أهم فوائده معرفة أن الموجود آخذ في سلسلته من النقص إلى الكمال، وبعض قطعاتها المشتملة على حلقات الحيوان الشامل للإنسان وما دونه مراتب مختلفة مترتبة آخذة من المراتب القاطنة في أفق النبات إلى المراتب المجاورة لمرتبة الإنسان ثم الإنسان. وقد ندب الله سبحانه الناس إلى معرفة الحيوان والنظر في الآيات المودعة في وجوده أبلغ الندب، وعد ذلك موصلا إلى أفضل النتائج العلمية الملازمة للسعادة الإنسانية وهو اليقين بالله سبحانه حيث قال: "وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" (الجاثية 4) والآيات في الحث على النظر في أمر الحيوان كثيرة في القرآن الكريم. ومن الممكن أن يشار في الآية إلى كلا المعنيين فيراد في الكتاب مطلق الكتاب، ويكون المعنى أن الله سبحانه لا يفرط فيما يكتب من شيء، أما في كتاب التكوين فإنه يقضي ويقدر لكل نوع ما في استحقاقه أن يناله من كمال الوجود كالأنواع الحيوانية هيأ لكل منها من سعادة الحياة الأممية الاجتماعية ما هيأه للإنسان لما رأى من صلوحها لذلك فلم يفرط في أمرها، وأما في كتابه الذي هو كلامه الموحى إلى الناس فإنه يبين فيه ما في معرفته خير الناس وسعادة عاجلهم وآجلهم ولا يفرط في ذلك، ومن ذلك أنه لم يفرط في أمر الأمم الحيوانية، وبين في هذه الآية حقيقة ما وهبه لها من نوع السعادة الوجودية التي جعلتهم أمما حية سائرة بوجودها إلى الله سبحانه محشورة إليه كالإنسان. وقوله تعالى: "ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" ﴿الأنعام 38﴾ بيان لعموم الحشر لهم وأن حياتهم الموهوبة نوع حياة تستتبع الحشر إلى الله كما أن الحياة الإنسانية كذلك، ولذلك أرجع الضمير المستعمل في أولي الشعور والعقل، فقال: "إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" ﴿الأنعام 38﴾ إشارة إلى أن أصل الملاك وهو الأمر الذي يدور عليه الرضا والسخط والإثابة والمؤاخذة موجود فيهم. وقد وقع في الآية التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير ثم إلى الغيبة بالنسبة إليه تعالى، والتدبر فيها يعطي أن الأصل في السياق الغيبة وإنما تحول السياق في قوله: "ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ" ﴿الأنعام 38﴾ إلى التكلم مع الغير لكون المعترضة خطابا خاصا بالنبي صلى الله عليه وآله فلما فرغ منه رجع إلى أصل السياق.
وعن نفي الاستنساخ وعلاقته بالحشر جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: ومن عجيب ما قيل في الآية استدلال بعضهم بها على التناسخ وهو أن تتعلق نفس الإنسان بعد مفارقتها البدن بالموت ببدن واحد من الحيوان يناسبها في الخلق الرذيل الذي رسخ فيها كأن تتعلق نفس المكار بدن ثعلب، ونفس المفسد الحقود ببدن الذئب، ونفس من يتبع سقطات الناس وعوراتهم ببدن خنزير، ونفس الشره الأكول ببدن البقر، وهكذا ولا تزال تنتقل من بدن إلى بدن وتعذب بذلك هذا إن كانت شقية ذات أخلاق رذيلة، وإن كانت سعيدة تعلقت بعد الموت ببدن سعيد منعم بسعادته من أفاضل أفراد الإنسان ومعنى الآية على هذا: ما من حيوان من الحيوانات إلا أمم إنسانية أمثالكم انتقلت بعد الموت إلى صور الحيوانات. وقد ظهر مما تقدم أن الآية في معزل من هذا المعنى، على أن ذيل الآية: "ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" ﴿الأنعام 38﴾ لا يلائم هذا المعنى، على أن أمثال هذه الأقاويل من وضوح الفساد بحيث لا طائل في التعرض لها والبحث عن صحتها وسقمها. ومن عجيب ما قيل فيها أيضا: إن المراد بحشر الحيوان موتها فلا بعث بعد ذلك أو مجموع الموت والبعث. أما الأول فينفيه ظاهر قوله: "إِلى رَبِّهِمْ" ﴿الأنعام 38﴾ إذ لا معنى للموت إلى الله، وأما الثاني فهو من الالتزام بما لا يلزم إذ لا موجب لضم الموت إلى البعث في المعنى، ولا أن في الآية ما يستوجبه.
|