وهكذا مضت التضحيات أدراج الرياح, وكأنها لم تكن ,فقد مضى زمن الشعارات والنضال والثبات, وبقي الواقع يصرخ وحده بالحقيقة المرة المؤلمة, فنتنياهو لم يخرج من هذه الحرب خاسرا , بل خرج منها محققا لأعظم إنجازاته على الصعيد السياسي والعسكري, وحتى الشخصي, واستطاع ان يستثمر صدمة ٧ ايلول وما تلاها ,ليطلق العنان لآلة القتل التي دمرت غزة , ومزقت نسيجها الاجتماعي, وكسرت شوكة مقاومتها العسكرية, وأدخلت المنطقة في دوامة من الدمار والتشظي والخذلان, وترامب الذي يصفق له كثيرون ,رغم وضوح نواياه , لم يكن بعيدا عن هذه المسرحية الكبرى, بل هو شريك في انتاجها وتوجيه مساراتها السياسية ,فقد عمل منذ ولايته الأولى على تصفية القضية الفلسطينية من خلال ما يسمى بصفقة القرن, واعترافه بضم الجولان ,ونقله لسفارة بلاده الى القدس ,ثم دعم إسرائيل بلا حدود, وترك المنطقة في حالة من الفراغ والاحتقان, لتمتلئ بأجندات التطبيع ومشاريع التجزئة والهيمنة الاقتصادية التي لا ترى في فلسطين سوى عقبة في طريق الاستثمارات الكبرى ,وتفاهمات الغاز والممرات الإبراهيمية , واليوم ها هو يعلن مجددا طموحه في غزة ليقود مشروعا جديدا ربما يكون اسمه (شركة غزة غير المحدودة!) وذلك لتسليع الكارثة وتحويل الدم إلى استثمار, وتوظيف المعاناة في بورصة السياسة والمال , واما حماس فهنا تكمن المشكلة الحقيقية ,فإما ان تكون قد ارتكبت خطأ استراتيجيا مروعا حين أقدمت على عملية لم تحسب حساب نتائجها الكارثية ,او انها فعلت ذلك وهي تدرك تماما ما ستؤول إليه الامور ,وفي كلا الحالتين نحن امام كارثة اخلاقية وانسانية واستراتيجية, لا يمكن تبريرها او تجاوزها ,فقد كانت غزة محاصرة لكنها واقفة, وكانت المقاومة مرهقة لكنها ثابتة , وكان الصوت الفلسطيني لا يزال يملك شيئا من الهيبة والرمزية ,لكن كل ذلك سقط في لحظة واحدة حين انطلقت الاحداث على نحو بدا وكأنه مخطط له بدقة متناهية ,فالرد الاسرائيلي لم يكن عشوائيا, بل ممنهجا ومهيئا له مسبقا , والتواطؤ الدولي لم يكن وليد اللحظة, بل كان منتظرا للذريعة , والمشهد الإعلامي كان مهيأ لتضخيم الرعب, ونزع التعاطف وشيطنة القضية بكاملها , وحتى محور المقاومة الذي لطالما تغنى البعض به كمشروع للردع والتوازن تم تدميره بشكل كبير, أو انكشف عجزه المريع حتى في حماية نفسه سوى بالشعارات والبيانات, فقد تم ضرب لبنان في عمقه الجنوبي وتهميشه عسكريا وسياسيا حتى بات عاجزا عن خوض أي مواجهة حقيقية, وتم إسكات صوت المقاومة العراقية التي كانت تتحدث كثيرا وتفعل قليلا ,وها هي اليوم تقف على الهامش دون تأثير فعلي في الميدان, اما سوريا فقد تم وضعها على جدول الدمار منذ 2012 والآن يجري تسليمها لداعش والقاعدة من اجل تقسيمها وتفتيتها إلى كيانات ضعيفة خاضعة للنفوذ الخارجي , وإيران التي راهن البعض على قوتها تلقت ضربات متكررة ,استهدفت منشآتها العسكرية والعلمية والنووية دون ردود تُذكر , وكأن هناك قرارا بعدم الدخول في المواجهة مهما كانت الاستفزازات, أما اليمن الذي شكل لفترة من الزمن نقطة توازن اخلاقي على الأقل في معادلة الصراع, فهو الآخر تلقى ضربات موجعة وتم تحييده بطريقة فاعلة, فأصبح عاجزاً عن التأثير في المعركة الكبرى التي كان من المفترض أن يكون جزءا منها, هكذا تتساقط الأوراق واحدة تلو الأخرى, وتبقى غزة وحدها في الميدان تقصف وتدمر وتباد وسط صمت عالمي مريب, وتخاذل عربي أشد ريبة ,وتشتت فلسطيني غير مسبوق ,حتى أن الكثيرين أصبحوا لا يعرفون ما النتيجة التي يُراد الوصول إليها, فهل كان الهدف هو إنهاء المقاومة بالكامل؟ ,وهل كانت حماس على علم بذلك؟,أم أنها خُدعت أو تورطت او أغراها وهم النصر المؤقت كما حدث في محطات كثيرة عبر التاريخ الحديث؟.. أسئلة كثيرة تطرح نفسها بقوة وقلق ومرارة ,لأن ما جرى ويجري لا يمكن تفسيره فقط بعقلية المؤامرة, أو الغباء السياسي ,بل هناك سياق اقليمي ودولي أُعدّ بدقة لتنفيذ هذا السيناريو الذي أدى إلى إضعاف كل من يشكل تهديدا فعليا للمشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة, فهل يعقل أن كل هذا حدث صدفة؟ وهل يُعقل أن يتم تسليم مفاتيح الحرب والسلم من قبل داعمي المقاومة وعلى راسم ايران بيد مجموعة لا تملك حسابات دقيقة ولا استشرافاً للمستقبل ولا تقديرا لحجم الرد القادم؟ أم ان المسألة اعمق من ذلك بكثير, وربما اكثر ظلامية؟ .. اننا أمام مرحلة جديدة عنوانها المعلن وقف الحرب وتهدئة الأوضاع وإعادة الإعمار, ولكن جوهرها الحقيقي هو تصفية ما تبقى من الوعي المقاوم,وخلق واقع جديد يكون فيه الشعب مجرد متلقي للمساعدات, وتابع للقرارات الدولية , وقابل للتطويع والتطبيع , ولعل هذا ما يفسر الحراك الدولي الكثيف الذي لا يُعنى بغزة كأرض أو شعب أو تاريخ, بل كملف يجب إغلاقه بأسرع وقت ممكن , حتى يعود الاستقرار للأسواق وتستأنف مشاريع الربح والإنتاج دون ازعاج وتبقى اسرائيل الطرف الاقوى والاكثر حضورا في أي تسوية قادمة واما الفلسطينيون فسينقسمون اكثر فأكثر, وتزيد خلافاتهم وتضيع بوصلتهم وتبقى ذاكرتهم مثقلة بالمجازر والخسارات والخذلان, ويبقى السؤال الأهم هل ما قامت به حماس كان غباء استراتيجيا, أم تواطؤا متعمدا مع العدو؟ .. (هنالك الكثير من القرائن التي تميل الى جهة التواطؤ وسنكتب عنها بعد ان تضع الحرب اوزارها تماما) , وفي كلا الحالتين نحن أمام كارثة لأن الحركة التي نشأت على أساس المقاومة والدفاع عن الأرض سقطت في اختبار التاريخ, وسقط معها ما تبقى من أمل في مشروع مقاومة حقيقي, فكل المؤشرات تؤكد أن ما بعد هذه الحرب لن يشبه ما قبلها , وأن المرحلة القادمة ستكون مرحلة إعادة تشكيل الوعي العربي والفلسطيني وفق قواعد جديدة تضمن بقاء الاحتلال, وتكريس الانقسام ,وتحييد كل من يحاول المقاومة سواء بالسلاح أو حتى بالكلمة, وهكذا سقطت الاقنعة وانكشف الغطاء ,وجاء دور الشعوب للحساب, نعم فالشعب الفلسطيني سوف يحاسب حماس قبل ان يحاسبها التاريخ , والحثالات التي تحتل فلسطين سوف تحاسب نتياهو , ليس باعتباره مجرم حرب , وانما عرّض دولة الاحتلال الى الخطر, وليس لأنه سجل في التاريخ ابشع الجرائم , واكثر الحروب فتكا ضد المدنيين , بل لأنه تاخر كثيرا في استعادة المحتجزين الصهاينة..
|