بكل حزن واستنكار, أشجب بأقسى العبارات الجريمة الإرهابية التي وقعت اليوم في لندن ,وأودت بحياة اثنين من المواطنين اليهود الأبرياء .. إن استهداف الأبرياء من اي ديانة كانوا او خلفية هو عمل جبان لا يمت للإنسانية بصلة, ولا أستبعد أن تكون وراء هذه العملية يد صهيونية خبيثة , تهدف إلى تخويف اليهود المناصرين للقضية الفلسطينية وزرع الفتنة وتأجيج الكراهية كما فعلت مرارا في التاريخ لتبرير سياساتها وممارساتها. إن الدماء البريئة لا يجب أن تُستثمر سياسيا, وموقفنا سيبقى دائما مع الضحية ضد الجلاد ومع الحقيقة ضد التلاعب والخداع, فاليهودية غير الصهيونية وذلك عندما نتأمل في الخطاب القرآني حول بني إسرائيل نلحظ ان الذم الوارد في بعض الآيات لا يتجه إلى عموم اليهود كأتباع ديانة سماوية, بل يوجه النقد إلى فئة من بني إسرائيل خالفت التعاليم الإلهية ,وتنكرت لشرائع أنبيائها وسعت في الارض فسادا, ومارست الظلم والتكبر والعصيان , وقد اتفق المفسرون والباحثون على أن هذا الذم لا يحمل طابعا عنصرياً ,بل يعالج حالات سياسية واجتماعية ودينية محددة ارتبطت بمرحلة تاريخية معينة, وتكررت في أنماط مختلفة على مر العصور, ولذا فإن استحضار هذه الآيات لتبرير العداء العام لليهود كدين و كأفراد هو اساءة لا تتفق مع روح الإسلام, ولا مع عدالته لأن الاسلام يقر بوجود الديانات الاخرى ويؤمن بأن اليهودية دين سماوي جاء به النبي موسى عليه السلام ومن هنا فإن التمييز بين اليهودية كدين والصهيونية كحركة سياسية هو تمييز ضروري لفهم الواقع المعاصر وتحديد المواقف الاخلاقية والسياسية تجاه ما يجري في فلسطين.
الصهيونية نشأت في أواخر القرن التاسع عشر كحركة قومية سياسية تستهدف إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين, متذرعة بالدين وبتاريخ طويل من الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في أوروبا, إلا ان هذه الحركة لم تمثل جميع اليهود منذ نشأتها بل واجهت رفضا من طوائف يهودية كثيرة رأت في الصهيونية انحرافا عن جوهر الدين اليهودي الذي يدعو إلى السلام والتواضع والعيش المشترك, بل واعتبرتها حركة علمانية تسعى لاستغلال الدين لتحقيق اهداف استعمارية ومن هؤلاء جماعة ناطوري كارتا التي لا تزال حتى اليوم تعلن رفضها لقيام دولة إسرائيل وترى ان هذا الكيان السياسي لا يمثلها ولا يمثل الديانة اليهودية الحقة ويؤمن افراد هذه الجماعة ان العودة إلى فلسطين لا تتم إلا بعد مجيء المسيح المنتظر ع وان ما تفعله الصهيونية هو استعجال لقدر إلهي واعتداء على مشيئة الله..
في السياق نفسه لا يمكن تجاهل الدور الذي يقوم به يهود معاصرون في مناهضة الاحتلال الإسرائيلي, وفي دعم القضية الفلسطينية سياسيا وإعلاميا وإنسانيا ,فمنهم من يشارك في مظاهرات تندد بجرائم الجيش الإسرائيلي , ومنهم من ينضم إلى حملات كسر الحصار عن غزة, ومنهم من يخاطر بوظيفته ومكانته في مجتمعه من أجل قول كلمة حق, ومنهم من يدفع ثمن مواقفه طردا وتهديدا وتشويها وتحريضا من قبل لوبيات صهيونية لا تقبل أي صوت يهودي معارض لسياستها العنصرية, وقد شهدنا خلال العدوان المتكررعلى قطاع غزة أصواتا يهودية ترتفع في كل من نيويورك ولندن وباريس وتل أبيب نفسها, تندد بالقتل وتدعو إلى وقف إطلاق النار وتحمل الحكومة الاسرائيلية مسؤولية ما يحدث وتؤكد أن معاداة الصهيونية ليست معاداة للسامية ,وإنما تعبير عن رفض الظلم والاحتلال والتمييز العنصري.
إن النظر إلى اليهود ككتلة واحدة يحملون المسؤولية الجماعية عن افعال حكومة اسرائيل, هو نوع من الظلم الذي يشبه ما فعله النازيون حينما عاملوا اليهود كجماعة متهمة بالجملة, وهو ايضا تجاهل للتنوع الهائل داخل المجتمعات اليهودية من حيث الفكر والمواقف والمرجعيات الثقافية والسياسية والدينية, فهناك يهود علمانيون ويهود إصلاحيون ويهود أرثوذكس ويهود ضد الصهيونية ويهود مع حقوق الفلسطينيين , وهناك من ولدوا في بيئة صهيونية ثم اكتشفوا لاحقا زيف السردية الرسمية وتحولوا إلى نشطاء حقوقيين يدافعون عن الفلسطينيين داخل الاراضي المحتلة, وفي المحافل الدولية ,هؤلاء لا يجوز وضعهم في خانة الاعداء بل ينبغي التعامل معهم كحلفاء للعدالة وكشركاء في النضال من أجل إنهاء الاحتلال وتحقيق السلام العادل والشامل , ومن المؤسف أن تتسرب احيانا بعض الخطابات العاطفية الغاضبة التي تخلط بين العدو السياسي والمخالف الديني, فتقع في فخ العنصرية والتعميم , وتفتح الباب لتجريم التعاطف مع اليهود المناهضين للصهيونية , وهذا أمر خطير لأنه يخدم الدعاية الصهيونية التي تسعى لإقناع العالم بأن كل من يهاجم اسرائيل انما يهاجم اليهود كيهود, وبالتالي تسعى لتجريم كل اشكال الانتقاد حتى لو كانت مبنية على وقائع حقوقية وإنسانية .. ان المعركة الحقيقية ليست مع الديانة اليهودية ولا مع اتباعها وانما مع النظام الاحتلالي الذي يمارس القتل والتهجير والاستيطان والحصار باسم حماية اليهود ,بينما هو في الحقيقة لا يحميهم بل يضعهم في صراع دائم مع محيطهم, ويستخدمهم كذريعة للاستمرار في سياساته العدوانية, وهذا ما يدركه عدد متزايد من اليهود الذين يرون أن وجودهم الآمن لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال العدالة للفلسطينيين ومن خلال إنهاء الاحتلال والاعتراف بحقوق الآخر..
لقد اصبح من الواجب الاخلاقي والسياسي ان نفرق بوضوح بين الصهيونية كحركة استعمارية توسعية, وبين اليهودية كدين سماوي له أتباعه وطقوسه وتعاليمه, ولا بد ان نتعلم كيف ندير خلافاتنا السياسية دون الوقوع في فخ الكراهية الدينية, فكما نرفض ان يتم الخلط بين المسلمين والجماعات المتطرفة التي تقتل باسم الإسلام, علينا ايضا ان نرفض ربط اليهود كلهم بالاحتلال الاسرائيلي.. ان الوقوف مع الحق لا يتطلب شيطنة الآخر, وإنما يتطلب فهمه والتواصل معه والعمل المشترك من أجل بناء عالم أكثر عدلا وسلاما, وهذا يتطلب وعيا عميقا ومعرفة دقيقة وموقفا انسانيا صادقا يتجاوز الصور النمطية والشعارات الانفعالية..
وفي الختام علينا ان نتذكر أن معركتنا ليست مع دين ولا مع عرق, بل مع ظلم واستبداد واحتلال, ومهما طال الزمن فإن الحق لا يموت , وانصاره لا يُحشرون بجنسية أو ديانة بل بما يقدمونه من مواقف وتضحيات وشهادات حية تنحاز إلى المظلوم وترفض ان تكون جزءا من آلة القمع والعدوان, ولذا فإن كل يهودي يقف اليوم ضد الاحتلال وضد الجرائم التي ترتكب باسم شعبه, هو في الحقيقة جزء من نضالنا ومن واجبنا أن نحترمه ونحميه ونمد جسور التعاون معه, فالقضية الفلسطينية ليست فقط صراعا على الارض ,بل هي معركة ضمير إنساني عالمي تتطلب أن يصطف الشرفاء من كل الأديان وكل القوميات في خندق واحد ضد الظلم, من أجل فلسطين , ومن أجل مستقبل تنعم فيه كل الشعوب بالحرية والكرامة والعدالة..
|