للاعلام الدور المهم في تسليط الضوء على الايجابيات والسلبيات ليس على السلطة فحسب ، بل على المظاهر والفعاليات الاجتماعية والثقافية والسياسية والنشاطات الاخرى ، وهذا الامر هو احد المهمات التي يضطلع بها الاعلام ،لان واجب الاعلام ليس تسليط الضوء فحسب ، بل واجبه ودوره اكبر من ذلك ، في هذه المقالة لا اتحدث عن الاعلام اكاديميا اذ سأترك ذلك لذوي الاختصاص ، انما حديثي عن انطباعات تولدت من خلال الواقع الذي عشته ، واحس به سواء قبل سقوط النظام او بعده ، وكذلك من خلال ما اشاهد او اسمع عن الاعلام الخارجي ، وتوجهاته في مساحة معلومة من الزمان والمكان .
الاعلام يرتبط بعلاقة جدلية وطردية مع الحرية ، فكلما اتيحت حرية اكثر كلما زاد دور الاعلام في المجتمع ، وينحسر دوره بانحسار هذه الحرية ، الاعلام موجود يتأثر بالموجودات الاخرى ، من ثقافة سائدة ، ونمط سياسي حاكم ، وعقلية اجتماعية عامة ، وتأريخ حضاري لشعب من الشعوب ، الاعلام عندما يعيش في ظل دولة وتحت رعايتها واجوائها ، يختلف عن الاعلام الذي يعيش في ظل سلطة ، واعني دولة المؤسسات التي تكون السلطة فيها تابعة للدولة ، وليس الدولة تحت رحمة السلطة .
في الدولة الديمقراطية المؤسساتية التي ينعم فيها الشعب بحريته ، تكون السلطة منفصلة عن الدولة ، بل هي تابعة لها ، لأن دولة المؤسسات تدار من خلال الدستور والقوانين المرعية ، والضوابط الاجتماعية السائدة ، والاعراف الدولية ، تدار دولة المؤسسات بغض النظر عن زيد الحاكم او عمرو ، صاحب السلطة التنفيذية موظف مكلف بواجب ادارة السلطة لفترة زمنية يحددها الدستور ، بعدها يغادر كرسي السلطة ليستلم الادارة شخص اخر حسب الاختيار الحر للشعب ، وربما تتجدد الولاية للحاكم مرة اخرى حسب الضوابط الدستورية ، ثم يغادر السلطة ليصبح مواطنا عاديا كما كان قبل التكليف ، السلطة تتغير والدولة باقية ، الاعلام في مثل هذه الدول ينتعش ، ويعيش حياته الطبيعية ويؤدي دوره ، ويقوم بمهمته الاعتيادية ، ولا ينحاز لهذا الطرف او ذاك .
اما الاعلام في الحكم الشمولي فلا يفرق المواطن فيه بين الدولة والسلطة ، بل تبتلع السلطة الدولة ، ولا يرى المواطن دولة بل سلطة فقط ، وتتحول الدولة بمؤسساتها الى خدمة السلطة ، والحاكم في مثل هذه الدولة يحكم مدى الحياة ، وحتى لواجريت انتخابات مثل ما قام به صدام المقبور ، او الحكام الديكتاتوريون الاخرون في المنطقة ، فمن اجل ذر الرماد في العيون ، اذ رأس السلطة يبقى خارج هذه اللعبة ، كما في دول الخليج وبعض البلدان العربية الاخرى ، واحيانا تجري انتخابات لأختيار رأس السلطة والنتيجة تكون محسومة سلفا اذ ستأتي نسبة الترشيح للحاكم الديكتاتوري الظالم بنسبة 99 % ، مضافا اليها بعض اجزاء الواحد الباقي ، في مثل هذه الدولة لا يوجد اعلام حقيقي ، لأنه مصادر ، ويسير بالاتجاه الذي تريد السلطة الحاكمة .
الاعلام موجود مسالم غير مسلح ولا عنفي ، اقصد الاعلام المهني الحر ، في الدولة الشمولية لانرى اعلاما ، بل تهريجا ومديحا وتزييفا للحقائق ، وقد عشنا وشاهدنا مثل هذا الاعلام في ايام الطاغية صدام ، اذ كان الاعلام ابواقا تنعق بمديح صدام ليلا ونهارا الاعلام في ظل السلطة الشمولية الدكتاتورية يكون مشخصنا فاقدا للارادة والحرية ونسميه اعلاما تجوزا ، اذ لا يوجد اعلام بل جوقة من المدّاحين الفاقدين للحرية ، فعدو الاعلام الحر في مثل هذه الدول هو السلطة الدكتاتورية الجائرة ، اذ تسلب ارادة وحرية الاعلام ويصبح مجرد هيكل بلا روح .
ارى ان العدو الاخر للاعلام هو المال ، ويفعل المال فعله في الدول التي تتمتع بالحرية، في ظل اجواء الحرية هذه تفقد بعض المؤسسات الاعلامية حريتها وأرادتها وتصبح اسيرة وحش المال ، المال هنا يتحرك ليشتري هذه المؤسسة الاعلامية او تلك ، فقد يشتري صحفا او فضائيات واذاعات ، وقد يشتري مؤسسات اعلامية من نوع اخر ، وللاسف قد تُشترى شخصيات اعلامية ايضا ، ظاهرة الاستحواذ على المؤسسات الاعلامية بواسطة المال دائما ما تكون في الدول الديمقراطية والمتمتعة بالحرية ، وهي موجودة بكثرة في الدول الغربية ، واكثر من يتجه لشراء المؤسسات الاعلامية في الغرب والسيطرة عليها بهذه الوسيلة ، هم اليهود ، لانهم يمتلكون اموالا طائلة من جهة ، ويعولون على الاعلام كثيرا لترويج قضاياهم والدعاية لها وشراء الذمم من جهة اخرى، بواسطة المال والاعلام يحقق اليهود ، والحركة الصهيونية العالمية الكثير من الاهداف التي ربما يعجز عن تحقيقها السلاح ، لهذا السبب عندما تريد الصهيونية ان تسلط الضوء على حدث ما في أي بلد من البلدان ، خاصة منطقتنا العربية نرى الاعلام الغربي يتوجه بالكامل لتسليط الضوء على هذا الحدث او الحالة التي فيها خدمة للصهيونية ، لان العصب المحرك لهذه المؤسسات الاعلامية واحد ، هو عصب المال الصهيوني الذي يمتلك هذه المؤسسات في العالم الغربي ، وفي مناطق اخرى من العالم .
هنا في العراق حصل الانفتاح الواسع في الاعلام بعد سقوط الطاغية صدام ، الانفتاح اتاح الفرصة لشراء الكثير من المؤسسات الاعلامية لهذه الجهة او تلك ، ولهذا الشخص او ذاك ، وهذه هي الضريبة ، وهذا هو ثمن الحرية ، لا احد يشك ان الاعلام في العراق الجديد يتمتع بالحرية الكاملة ، لدرجة ان بعض الواجهات الاعلامية المشتراة ، تتجاوز خطوط المهنية في العمل ، وتتحدث خارج الضوابط والتقاليد الاعلامية ، كأن تتجاوز على بعض الرموز الوطنية او الدينية ، من دون ان يحاسبها احد ، وهذه الظاهرة سلبية وغير صحيحة .
الظاهرة الاخرى للاعلام العراقي بعد الانفتاح ، ان بعض المؤسسات والواجهات الاعلامية فاقدة للاستقلالية ، او الانتماء للوطن ، لأنها تخدم الجهات التي تمولها فحسب، اما ما يخص الوطن والشعب ، فهذا خارج الاهداف التي تعمل من اجلها ، وبعض المؤسسات الاعلامية تستخدم المال المقدم لها من خارج الحدود للدعاية والتمويه وشراء بعض الاصوات المتعبة ، وهناك ظاهرة اعلامية اخرى تبعد الاعلام عن المهنية والاستقلالية وعن الروح الوطنية العامة ، هي ظاهرة الشخصنة ، التي تعتبر احد الامراض التي يصاب بها الاعلام ، الاعلام المشخصن يتحرك بالتجزيئية التي لا تؤدي دورها في خدمة الوطن والشعب بصورة صحيحة ، نحن بحاجة الى اعلام وطني يتحرك باسم العراق الكبير وباسم الشعب الواحد ، لا الاعلام التجزيئي الذي يخدم جهة معينة كأن يكون حزبا او شخصا او طائفة او مذهبا .
ظهر في العراق ايضا نوع من الاعلام يمكن تسميته بالاعلام الاسلامي ، وهو يمثل احزابا او مؤسسات او رموزا اسلامية ، وهذا النوع من الاعلام ظهر كأحد نتائج الانفتاح الحاصل في العراق الجديد ، ولم يسلم هذا الاعلام من مرض الشخصنة ايضا ،
الاسلاميون بعد سقوط الطاغية شكلوا جزءا مهما وكبيرا في الساحة السياسية الجديدة فلهم اعلامهم الخاص من صحف ومجلات او اذاعات وفضائيات وغير ذلك من الوسائل الاعلامية الاخرى ، ولو دققنا النظر في الاعلام الاسلامي الذي ولد بعد السقوط ، نراه لا يتكلم باللسان او الهوية الوطنية ، انه يتكلم بلسان الحزب او الجهة التي ينتمي اليها ، الشخصنة ظاهرة في الاعلام الاسلامي بقوة ، كما هي ظاهرة في وسائل الاعلام غير الاسلامية ، المواطن اصبح يعطي هوية لكل وسيلة اعلامية ، فهذه الفضائية مثلا تعود لهذا الحزب ، وتلك تعود للشخصية كذا ، وهكذا بقية وسائل الاعلام الاخرى .
الكثير من وسائل الاعلام المشخصنة لا تتناول قضايا العراق بمهنية ، بل بالمنظار الضيق ، ومن زاوية الجهة التي تعود اليها ، اصبح الشعب يلجأ الى وسائل الاعلام الخارجية كي يستقصي الخبرالمستقل الصحيح ، او يستمع الى التحليل الموضوعي ، اخذ الشعب يشعر بالضيق من وسائل الاعلام العراقية ، لان كل وسيلة اعلامية تنحاز الى الجهة التي تتبناها ، فتضيع الحقائق بين هذه وتلك ، المواطن اخذ يشعر بالملل من حالة الشخصنة المتفشية في وسائل الاعلام ، اذ المطلوب وسائل اعلامية تحمل الهوية الوطنية بعيدا عن الشخصنة ، التي لاتعكس الا وجها واحدا للحدث ، هو الوجه الذي يناسب الجهة التي تدعم هذه الوسيلة الاعلامية بعيدا عن الموضوعية والواقعية .
كان الاعلام ايام الطاغية صدام مشخصنا ، لكنه يرتدي لونا واحدا ، أما اليوم فالاعلام المشخصن يرتدي ألوانا شتى ، المواطن العراقي يشعر بالضيق والضجر من الاعلام المشخصن البعيد عن روح الوطنية ، جلبت الشخصنة التعب والتشويش الى ذهن المواطن بسبب النظرة الضيقة والتزييف وقلب الحقائق سلبا او ايجابا بما يتماشى ورغبة الجهة الداعمة والممولة ، وهذا ما نشاهده بوضوح من خلال الفضائيات العراقية المتنوعة بتنوع الاتجاهات ، الحالة السلبية التي نشاهدها في الفضائيات او الصحف او وسائل الاعلام الاخرى ، ما هي الّا نتيجة من نتائج الوضع السياسي المرتبك القائم على المحاصصة التي اتعبت الشعب العراقي كثيرا ، املنا ان تنتهي في الدورة الانتخابية القادمة ، ونتمنى انبثاق حكومة وطنية بعيدة عن المحاصصة التي تركت اثارها السيئة على الاعلام ايضا ، واذ نذكر اصابة اعلامنا بداء الشخصنة ، لا يمكن ان نتجاهل وجود اعلام وطني غير مشخصن ، يتكلم باسم العراق الواحد ، ويسعى لاشاعة روح المواطنة الصادقة ، ويخاطب ابناء الشعب العراقي بكافة الوانه واطيافه بخطاب واحد ، بغض النظر عن الأنتماء القومي او المذهبي او الديني ، الاعلام الوطني هذا ضعيف ويحتاج الى الدعم من الحكومة والشعب والاحزاب والتيارات والشخصيات السياسية والدينية والمجتمعية الوطنية ، لتقويته وابراز دوره بشكل اكبر ، ورفع صوته عاليا ليصدح باسم العراق والشعب الواحد . |