• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : تجاهل خطة السلام للحقائق والحقوق .
                          • الكاتب : جاسم محمدعلي المعموري .

تجاهل خطة السلام للحقائق والحقوق

 

خطة السلام التي اعلن عنها مؤخرا بين ترامب ونتياهو والتي ترسمها المصالح, هي قناعٍ لهيمنة تتلبّس ثوب العدالة, حيث تخرج الخطة من رحم العقل الأمريكي كأنها قدر لا بد أن يُتبع, لا يهم إن كانت بنودها ناقصة ,أو محشوة بالمفارقات والثغرات, لا يهم إن تجاهلت جرح الضفة و جريمة الاستيطان المستمرة فيها ,او  الدولة الفلسطينية المزعومة المغيبة , ما يهم هو ان يتوقف الموت ويبدأ الاعمار, ولكن تُمسح الذاكرة ,ويُعاد رسم التاريخ بتجاهل الحقائق وابرام الصفقات.

في هذا المشهد يبدو ترامب كصانع سلام, لكنه سلامٌ لا يشبه السلام, بل هو شكل آخر من اشكال الغزو الناعم ليس بالدبابات, بل من خلال البنود التي اعلنوا عنها ليلة البارحة ,كل بند يُفرَغ من قضيته المركزية ليُعبَّأ بلغة التقنية والرقابة ,والحدود المحكمة, وكأن الحل يكمن في إعادة تشغيل الكهرباء لا في الاعتراف بالجذر الاساسي , في تطهير المياه لا في تطهير الارض من المحتل.. الخطة تعبر فوق فكرة الدولة كأنها غير ضرورية, كأن السيادة لامعنى لها إذا تم استبدالها بالمساعدات ,واذا ما تم تعيين شرطة لحفظ الامن الداخلي, وكأن التحرر مجرد ادارة شؤون يومية, وكأن حق العودة نكتة, وكأن تقرير المصير مسألة لوجستية لا اخلاقية, وكأن الاحتلال لا يحتاج الى ادانة ,بل الى تنظيم وتسوية و(اعادة تأهيل)..

ومع كل هذا يُقال إن الحرب ستنتهي ,لكنها لن تنتهي إلا ببدء نوعٍ جديد من الهيمنة اكثر نعومة, لكنه لا يقل فتكا عنها.. فيُحكم على المقاومة بالموت مرتين, مرة بالصواريخ والقنابل,ومرة بالتشويه الاخلاقي.. مرة بالتدمير , ومرة بالمحو من السرديّة.. نتنياهو حقق ما أراد وخرج من الحرب أكثر قربًا من التطبيع الشامل , وأكثر بُعدًا عن المساءلة, نزع سلاح غزة ونزع معنوياتها وبدّل خطابها من مقاومة إلى تسوية, والكل من حوله يغنّي لمرحلة ما بعد الحرب, كأن ما كان كان ,وهكذا تسير الرواية..

أما حماس فقد قادت المشهد الى حيث لا ينبغي, الى متاهة غامضة بين مؤامرة وغباء, بين نوايا لم تُحسَب, ونتائج لم تُحتمَل ,ما فعلته لم يكن فقط انتكاسة عسكرية ,بل كان زلزالا مفاهيميًّا عظيما للقضية كلها, لأنها جرّت محور المقاومة في كل المنطقة الى حافة السقوط أو الانكفاء, او إعادة التعريف وربما إلى المجهول, ولم اعد اثق بنزاهتها ,ولدي من القرائن ما يريح ضميري, اما الأدلة فالزمن كفيل بكشفها, ولكن بعد ان يخف او ينتهي ألم الخيانة, وتبرد قلوب الضحايا ,وتنشغل الامة بحرب جديدة..

في المنتصف يقف الفلسطيني المنهك بين خرابين, خراب الصواريخ, وخراب التسويات.. بين يأسٍ عسكري.. ويأس سياسي.. بين مشروع وطن يذوي.. ومبادرات تعيد تدوير الاحتلال بحجة الحداثة والاستقرار, فيسأل اين ذهبت الدولة؟.. أين ذهب القانون الدولي؟.. أين ذهب حق العودة؟.. ولماذا أصبحت المقاومة عبئاً بدل ان تكون شرفا؟.. ولماذا اصبحت التسوية خيارا بلا بدائل؟.. ولماذا يُطلب منه دوما أن يكون عقلانيا, فيما يُطلب من جلاده ان يكون فقط واقعيا؟..

وهنا تبرز الأسألة المهمة ليس لتقدم حلولا ,بل تبحث عن اجوبة لن يجيب عنها احد , ما معنى السلام ان لم يكن عادلا؟ ما معنى الامن ان كان للمعتدي المحتل فقط؟ ما معنى السياسة ان لم تكن اخلاقية؟ ما معنى ان تُرسم خارطة لغزة ,وتُمحى خارطة لفلسطين كلها؟ ما معنى ان يُمسك ترامب بغزة من خلال ما يسمى (مجلس السلام), وكأنها مقاطعة امريكية تحت رئاسته؟ وما معنى ان تُدار الحروب كما تُدار الشركات؟, وأن تُقاس المعاناة بالأرقام ,وان تُبرر الخسائر بالفرص؟

الخطة ليست سوى قناع لبنية استعمارية قديمة متجددة تُدار بأدوات حديثة, لكنها تحتفظ بجوهرها النهم للسيطرة والسيادة, لا تحتاج إلى جندي واحد على الارض, اذا كانت تملك كل مفاتيح المال والاعلام والتحكم بالمساعدات والحدود والشرعية الدولية.

وهكذا يستمر الصراع ليس كصراع جيوسياسي فقط ,بل كصراع وجودي بين ذاكرة يراد لها ن تُمحى, وبين وعي يُراد له أن يُستبدَل.. بين قضية تُختزل في ورقة, وبين شعب يُراد له أن ينسى.. ان الوطن ليس مشروعًا استثماريا قابلا للإدارة, بل كينونة لا تُقاس بالبند أو البندين أو العشرين بندا, بل تُقاس بما لا يمكن تفصيله في الخُطط ,لأن هذه الكينونة أكبر من الورق وأعمق من السياسة..

جاسم محمد علي المعموري

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=208632
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 10 / 01
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 10 / 14