• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الاستعمار المعاصر: آليات الهيمنة ووهم السيادة .
                          • الكاتب : رياض سعد .

الاستعمار المعاصر: آليات الهيمنة ووهم السيادة

 لا مراء في أن القوى الاستعمارية - وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا - لا تنتمي إلى عالم المؤسسات الخيرية أو الهموم الإنسانية، فشعوب العالم الثالث ليست سوى أدوات في حساباتها الجيوسياسية.

لقد تجاوز الاستعمار الحديث مرحلة الاحتلال العسكري المباشر، الذي كان يهدف صراحة إلى نهب الثروات واستعباد الشعوب، كما تُجسده مقولات تاريخية مثل "جئنا محررين لا فاتحين " التي أخفت جوهر النهب تحت شعارات براقة... ؛ و اليوم، تُدار لعبة الهيمنة بمكر أكبر، عبر أدوات أكثر خبثاً وتستُّراً.

الاستكبار بوجهٍ إنسانيٍّ زائف:

يقدم الغرب نفسه حامياً لقيم الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية ، بينما تكشف ممارساته تناقضاً صارخاً... ؛  ففي الوقت الذي يُبدي فيه حرصاً مبالغاً على رفاهية الحيوانات في بلاده، يتجاهل ببرود مشاهد الموت والدمار التي يتسبب بها في أراضي الآخرين... ؛  تصريحاتٌ عنصرية كتلك التي أطلقها رئيسٌ مثل ترامب ضد الأفارقة والمهاجرين، أو مطالباته السافرة بدفع "اتاوات" من حلفاء كدول الخليج - بما في ذلك ما أُشيع عن استغلاله لموارد الحج - ليست سوى غيض من فيض... ؛  إنها تعكس نظرة استعلائية جوهرية ترى في شعوب الجنوب  والعالم الثالث كياناتً أدنى، تستحق الاحتقار لا التكريم...!!

آليات الهيمنة غير المباشرة:

لمَّا لم يعد الاحتلال المباشر مقبولاً في الوعي الشعبي المعاصر، ابتكرت قوى الاستكبار أدوات بديلة:

1.  السيطرة الاقتصادية: عبر فرض اتفاقيات تجارية جائرة، ومنح امتيازات استثمارية تنهب الموارد وتُفقر الشعوب تحت شعارات التنمية.

2.  الحكومات العميلة: تنصيب طبقات سياسية فاسدة ومطيعة، تُنفذ أجندة المستعمر وتُدير عملية نهب ثروات بلدانها نيابة عنه، ثم تهرب بأموال الشعوب إلى المصارف الغربية.

3.  التوظيف الأيديولوجي: استبعاد أي قيادة وطنية حقيقية أو تحررية قد تعترض المصالح الغربية، وضمان بقاء السلطة في أيدٍ تتوافق إيديولوجياً واقتصادياً مع المشروع الغربي الاستكباري.

العراق: نموذجاً للهيمنة المستدامة:

تقدم التجربة العراقية منذ تأسيس الدولة الحديثة وحتى اليوم دليلاً صارخاً على فشل تغيير الشكل دون المضمون... ؛  فقد تناوبت على حكمها أنظمة ملكية وجمهورية ثم "ديمقراطية"، لكن الخيط الاستعماري ظل مسيطراً... ؛  لقد أدرك المستعمر بعد مقاومة شعبية كبدته خسائر فادحة، أن الاحتلال المباشر مكلف، فتحول إلى احتلال غير مرئي عبر وكلاء محليين يتحكم فيهم بالخيوط او بالضغوط ... ؛  إن استمرار الفوضى والفساد في العراق ليس ضعفاً في قدرات أمريكا الاستخباراتية - التي تتباهى بقدرتها على تعقب الأعداء وتصفيتهم عالمياً ومراقبة كل دولار يدخل العراق ويخرج منه - بل هو سياسة مُتعمدة.

الفساد: سلاح الهيمنة الأعظم:

يكشف تعامل القوى الاستعمارية مع ملف الفساد في الدول الخاضعة لها عن حقيقة مروعة:

1.  الاستفادة المباشرة: فهي المستفيد الأكبر من عمليات النهب المنظم، حيث تعود الأموال المسروقة في النهاية إلى اقتصادياتها عبر قنوات مشروعة أو غير مشروعة.

2.  أداة للسيطرة: الفاسدون ليسوا سوى بيادق شطرنج يُحركها المستعمر متى شاء، ويستخدم ملفاتهم للابتزاز والسيطرة.

3.  التبرئة الذاتية: تُوكل المهمة القذرة للنهب للوكلاء المحليين، فتظهر هي بمظهر الحريص النزيه، وتُلقي بالتبعة كاملة على "الفاسدين المحليين".

4.  ضمان التبعية: وجود طبقة سياسية فاسدة يضمن بقاء القرار السياسي مرتهناً للإرادة الخارجية، فالحاكم النزيه الوطني يصعب تهديده أو ابتزازه.

الخاتمة:

إن استمرار معاناة دول مثل العراق يعكس نجاح آليات الهيمنة الجديدة... ؛  فبعد أن أصبحت المقاومة المسلحة للاحتلال المباشر ممكنة، صار الاستعمار يختبئ وراء واجهات محلية ويستخدم الفساد والتبعية الاقتصادية كأدوات لإدامة سيطرته... ؛  إن مواجهة هذا النموذج تتطلب وعياً عميقاً بآلياته، وإرادة وطنية صلبة قادرة على تحرير القرار السياسي والاقتصادي من براثن الاستكبار المُعاصر الذي يرتدي أقنعة متعددة، ويختبئ غالباً خلف شعارات زائفة... ؛ و التحرر الحقيقي يبدأ بكشف هذه الآليات وقطع حبال التحكم الخفية التي تسلب إرادة الشعوب وتصادر ثرواتها تحت مسميات متجددة.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=208574
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 09 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 10 / 14