• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الذكرى الاولى لرحيل الشجاعة والكلمة والوفاء .
                          • الكاتب : جاسم محمدعلي المعموري .

الذكرى الاولى لرحيل الشجاعة والكلمة والوفاء

 حَللتَ في الروحِ في أعماقِها أهْلا

وخصّكَ القلبُ أن تَنزلْ بهِ سَهْلا
جاهدّتَ في اللِه عمرًا يافعًا فذّا
رُمتَ الشهادةَ حتى نِلتها كَهْلا 
خُضتَ المنايا صائلًا ومُجلجلاً 
وكنت في سوحِها السيّدَ الأعلى
أبكيكَ مازالتِ الأفلاكُ جاريةً
وأرتجي اللهَ زُلفى تُورثُ الوَصلا
يا أنبلَ الناسِ نبتاً شامخاً عَلماً 
يا أشرفَ الناسِ من ذريةٍ أصْلا 
كم مِن عظيمٍ تَناسَتْهُ الأنامُ وقد 
تبلى القرونُ وتبقى أنت لا تبلى

وقفنا وجلين امام رحيل رجل بحجم السيد حسن نصر الله, كما لو أننا نكتشف فجأة أن الجبل الذي كنا نراه كل صباح قد اختفى, وان الأفق الذي لطالما دلّنا على الطريق, لم يعد هناك.. رحيله ليس لحظة زمنية تنقضي, بل هو زلزال في الذاكرة, ذاكرة كل الشعوب الحاضنة للمقاومة, وهوتصدّع شديد في بنية القضية الكبرى، وتجربة روحية لن تعبر دون ان تترك اثرا في وجدان الامة وشعوب العالم اجمع..
لم يكن السيد حسن نصر الله مجرد زعيم سياسي او قائد ميداني أو امين عام لتنظيم ذائع الصيت, بل كان أكثر من ذلك بكثير.. كان صوتا يخرج من قلب المعادلة الصعبة, بين القوة والعقيدة.. بين الأرض والسماء.. بين الميدان والمنبر.. كان رجلا يُجيد الحرب كما يُجيد الكلمة, يعرف كيف يقف على منبر ليخاطب الأمة, كما يعرف كيف يُخطط لصراع تتداخل فيه الخرائط والأقدار.
لقد عرفناه بصوته أولا.. ذلك الصوت الذي يتدفق هادئا كالنهر, لكنه يحمل في عمقه نبرة تشي باليقين المطلق.. لم يكن بحاجة إلى الصراخ, إذ كانت الكلمة منه كافية لتصنع فرقا في الوضع الاقليمي. صوته لم يكن فقط وسيلة للتواصل, بل كان في ذاته حدثا.. توقيتا.. طقسا شعبيا ينتظره الملايين, كان من القلائل الذين تُصغي إليهم الجماهير كما لو انهم يستمعون إلى نبض قلوبهم, ولم يكن يقرأ خطابا ,بل يخلق واقعا.. كل جملة يقولها كانت لبنة في مشروع.. كل وقفة كانت توازنا بين حزن وامل.. بين نكسة ووعد..
وقد عرفه الأعداء كما عرفه المحبّون.. يقول حد الجنرالات الصهاينة المتقاعدين: (لقد كنا نحارب ظله لا جسده, لأنه لم يكن يظهر إلا في الوقت المناسب.. بالكلمات المناسبة، لينسف نصف معادلتنا الإعلامية والعسكرية) ويقول آخر (لم نكن نصدق أن زعيما بهذه القوة لا يملك جيشا تقليديا ولا ميزانية دولة, ومع ذلك يبقينا في الليل نحسب كل حركة على الحدود) بينما كتب معلق عسكري في صحيفة يديعوت أحرونوت قائلا (نصر الله رجل ذو كاريزما قاتلة لا يمكننا اخفاء اعجابنا بصلابته حتى ونحن نكرهه)
وفي المقابل, حين أعلن نبأاستشهاده عمّ العالم الصمت المشوب بالذهول.. لم يكن الحزن عاديا, بل حزنا كونيا ينساب في ملامح الوجوه, كما لو أن الجميع قد فقد قطعة من ذاته.. خرج الناس في شوارع بيروت.. بغداد.. طهران.. دمشق.. الضاحية.. صنعاء.. كربلاء.. اسطنبول.. كشمير.. بل وحتى في مانشستر وسيدني ومارسيليا.. رُفعت صوره في قلوب المدن لا على جدرانها فقط.. كتب أحد المتظاهرين في لاهور على لافتته كما اتذكر(ذهب رجل, لكن المقاومة ما زالت تنبض باسمه) وقالت امرأة من جنوب لبنان وقد سالت دمعتها بلا خجل (لقد مات الصبر... ماتت اللحظة التي كنا ننتظر فيها أن يظهر ليقول لا تخافوا.. لقد كنا ننتظر وجهه كما ننتظر وجه القمر)
الصحف الأجنبية كتبت تأبينات تختلف لهجتها حسب موقعها السياسي، لكن جميعها التقت في حقيقة واحدةهي ان الرجل كان له اثر لا يمكن انكاره.. كتبت صحيفة (لو موند الفرنسية ..لقد كان شخصية لا تنتمي فقط إلى لبنان، بل إلى الظاهرة المقاومة في الشرق كله) أما (نيويورك تايمز فقالت (مع موته، يخسر الشرق الاوسط احد أبرع المتحدثين باسم التيار المناهض للهيمنة الغربية) في حين كتبت (الغارديان, السيد حسن نصر الله لم يكن فقط زعيما, بل كان سردية بأكملها... رجل لا يشبه زمنه, بل يسبق الزمن)..
في شوارع طهران ووسط أجواء غارقة بالحزن رُفعت صور السيد إلى جانب صور الامام الخميني (قدس سؤه)وقائد فيلق القدس الشهيد السعيد قاسم سليماني.. لم يكن ذلك عبثا رمزيا, بل كان ترجمة لما كان يمثله نصر الله في العقل الشيعي المعاصر., لقد كان تجسيدا عمليا لعقيدة الانتظار, ومشروعا ميدانيا للثأر الالهي, وبوصلة توازن بين المذهبية والوطنية.. أما في النجف وقم فقد نعاه العديد من العلماء بعبارات تفيض بالحزن والتقدير. 
ان الخسارة في استشهاد رجل كهذا لا تُقاس فقط بالميدان السياسي او العسكري, بل في السقف الاخلاقي الذي كان يمثله, لم يكن نصر الله يوزع الكراهية, بل يوزع التسامح.. كان قادرا على أن يخاطب جمهوره دون ان يكرّس الانقسام الطائفي, وكان يعرف ان العدو ليس من يختلف معه في الدين, بل من يحتل الارض وينهب الكرامة ,لذلك كان كثير من خصومه السياسيين في لبنان يعترفون ان الخلاف معه سياسي, لكنه رجل صادق لا يناور بالكذب ولا يتهرّب من المسؤوليّة. 
لقد كان الرجل بسيطا في مظهره, كبيرا في حضوره.. لم نشاهده في قصور، ولم يتزين في موائد الامراء, بل كانت ملابسه بسيطة لكنها لم تكن قادرة على اخفاء النور الذي تحتها, وكانت كلماته متّزنة خالية من الاستعراض, عميقة رغم بساطتها.. هذا التوازن بين التواضع الشخصي والعظمة الرمزية, هو ما جعله يشبه الأنبياء في وجدان وضمير احرار الامة ورجال وقادة ميادين الكرامة, ويجعل موته يبدو وكأنه اختفاء لصوت العدل من عالم ضاج بالفجور.
حين كان يتحدث لم يكن يخاطب العقول فحسب, بل كان يخاطب القلوب ويزرع كلماته في ذاكرة الامة, كان يوقظ فيك أشياء ظننت انك فقدتها كالأمل والغضب النقي والصبر وحتى الحلم.
هل رحل السيد؟ نعم, رحل الجسد, ووارته الارض التي أحبها, لكن هل مات الصوت؟ هل مات المشروع؟ هل ماتت البوصلة؟ لا, فالرجل كان يُحسن بناء العقيدة التي لا تموت ,يبني الوعي والمبدأ, لذلك فإن موته لا يجب ان يبكينا فقط, بل يجب أن يحفزنا على ان لا نكون تابعين لصوته, بل لرسالته.. لقد كان يُهيئ الجيل الآتي كي لا ينتظر صوتا ليقرر, بل يحمل المشعل ويستكمل الطريق.
وفي ذروة هذا الغياب يسأل الناس أنفسهم, من سيملأ هذا الفراغ؟ من سيقف في وجه العاصفة ويقول اطمئنوا؟ من سيملك تلك الكاريزما الصامتة الفريدة التي توازي في أثرها ضجيج الجيوش؟ الجواب صعب وربما قاس لكن جزءا من اجابة السيد نفسه كان في تكراره قولا شهيرا (المقاومة ليست فردا, بل شعب.. ليست رجلا, بل مسار) ربما ارادنا ان نفهم منذ البداية ان علينا ان نكون كلنا نصر الله, لا ان ننتظر نصر الله.
وهكذا حين نبكيه لا نبكيه فقط حبا, بل مسؤولية.. نبكيه لأننا نعلم انه ترك وراءه فراغا لا يُسدّ بسهولة.. وترك ارثا ثقيلا علينا ان نحمله, لا ان نتركه خلفنا على الرفوف.. موته لم يُنهِ المشروع, بل اسس لمرحلة جديدة.. مرحلة بلا صوته, لكن بصورته في عيون الاوطان المقاومة والشعوب الحرة, بكلماته في وعي المقاومين في كل العالم, وبظله في طريق طويل لا يزال مفتوحا.. لقد رحل رجل عاش ليحيا في الذاكرة.. رجل لم يكن من هذا الزمان, بل من زمان آخر.. زمان الصدق والموقف والوقوف المستقيم في زمن الانحناءات.. لقد رحل رجل لم يكن يتبع الريح اينما مالت يميل, بل يواجهها.. واليوم إذ نودعه مرة اخرى في ذكراه الاولى, نوقن انه لم يمت تماما, من يشعل في الناس فكرة لا يموت.. من يبني وعيا لا ينهار, من يجعل من دمه جسرا للكرامة لا يُهزم..
نم أيها السيد كما ينام الأنبياء بعد تبليغ رسالاتهم.. فقد بلّغت الرسالة ,وأديت الأمانة, وأقمت الحجة ,وفتحت الطريق..
جاسم محمد علي المعموري 


 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=208504
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 09 / 27
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 10 / 14