• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : قضية الصبي علي: دموع تهز الرأي العام وتكشف خلل النظام الإصلاحي في العراق .
                          • الكاتب : رياض سعد .

قضية الصبي علي: دموع تهز الرأي العام وتكشف خلل النظام الإصلاحي في العراق

في حادثة سرقة مؤلمة هزّت ضمير العراقيين، اعتُقل الصبي علي – المولود عام 2008 – مع والده في منطقة الحسينية، بتهمة الاشتراك في سرقة أربعة متقاعدين لم يتجاوز مجموع ما سُرق منهم مليوناً ونصف المليون دينار عراقي ... .

علي لم يبلغ سن الرشد بعد، وكان يعمل سائق تكتك ليساعد عائلته لاسيما امه المسكينة في كسب قوت يومها، ولم يسبق له أن دخل السجن أو ارتكب أي جريمة في حياته... ؛ لكن بعد خروج والده من السجن، أغراه وضغط عليه ليمارس السرقة معه، حتى رضخ مضطراً... ؛ وقد اعتُقل الاثنان وأحيلت أوراقهما إلى الجهات المختصة قبل تحويلهما إلى القضاء.

الإعلامي تمام عبد الحميد، الذي اعتاد تغطية مثل هذه القضايا، أجرى لقاءً متلفزاً مع الأب والابن قبل إحالة ملفهما إلى المحكمة... ؛ وخلال الحوار، أكّد الصبي علي – أمام ملايين المشاهدين – أنه لم يرتكب جريمة من قبل ولم يدخل السجن قط... ؛ ثم تحدث بحرقة عن أمه التي كدّت وعملت من أجل تربية أبنائها، كي يكبروا معافين من الحاجة والضياع، مؤكداً أن عمله كان لإعالتها وردّ جميلها... ؛ وفي لحظة إنسانية نادرة، انهار علي باكياً، بللت دموعه الغزيرة خدّيه وبللّت بدلة التوقيف الصفراء التي يرتديها، وهو يصرخ: "أريد أمي… أريد أمي… لا أتحمل فراقها!" — لحظة أبكت العراقيين رجالاً ونساءً، وجعلت قلوبهم تهتف مع دموعه... ؛ ثم اردف قائلا : "أمي تعبت كثيراً كي نكبر بكرامة، كانت تعمل كي لا نعمل نحن ونحن صغار، واليوم نحن نعمل لإعالتها."

ان مشهد البكاء هذا أبكى معه رجالاً ونساءً من مختلف شرائح المجتمع، وتحوّل اللقاء إلى حدث إنساني تابعته الملايين عبر شاشات التلفاز ومنصات التواصل الاجتماعي... ؛ وتعالت التعليقات المطالبة بالإفراج عن الصبي أو التخفيف عنه، ودعا كثير من الناشطين إلى جمع المبلغ المسروق وإعادته إلى المتقاعدين ليتمكنوا من التنازل عن الدعوى، وتبقى القضية ضمن حدود الحق العام.

وسرعان ما تحولت القصة إلى قضية رأي عام، إذ ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بالتعاطف، وانهالت التعليقات المطالبة بإطلاق سراحه والتخفيف من حكمه، والدعوة إلى إيصال المبلغ المسروق للضحايا كي يتنازلوا عنه كما اسلفنا ... .

وفي مبادرة إنسانية مؤثرة، خرج الإعلامي تمام بفيديو جديد، حاملاً بيده المبلغ الذي تبرع به أحد المواطنين الغيارى – الذي رفض الكشف عن اسمه – ليسدد المبلغ المسروق، بل وتعهّد بتوفير عمل كريم للصبي علي بعد خروجه من السجن... ؛ كما تواصل الاعلامي تمام مع المتقاعدين المسروقين، وأقنعهم بالتنازل عطفاً على الصبي وأمه المكلومة، وقد وافقوا جميعاً... ؛ كما أجرى اتصالاً مع والدة علي، التي شكرت المتبرع والإعلام والجمهور، وتعهدت برعاية ولدها ومنع تكرار مثل هذا الفعل.

ومع ذلك، وكالعادة، ارتفعت بعض الأصوات الناشزة ... ؛ تطالب بتطبيق القانون بحذافيره على هذا الصبي المغرر به والذي لم يسبق أن تلوث سجله بأي جريمة.

تلك الأصوات – التي تتذرع بالقانون وتغلف قسوتها بغلاف العدالة – تغفل أن القانون بلا رحمة قد يتحول إلى أداة سحق بدل أن يكون وسيلة إصلاح... ؛ فلا خير في قانون لا يتضمن الرحمة، ولا خير في عقوبة لا تفضي إلى مجتمع سليم ومعافى... ؛ إن المطالبة بسجن صبي مغرَّر به، تحت ضغط والده وظروفه القاسية، ودموعه الصادقة تشهد على ندمه، ليست عدلاً بل انتقاماً مجانياً يهدد مستقبل إنسان وأسرة كاملة.

الأمر الأخطر أن الإعلامي تمام نفسه – وهو يهدف إلى نقل صورة إيجابية عن عمل دوائر الحكومة – كشف حقيقة صادمة حين أشار إلى أن سجن الصبي سيجعله يختلط بالمجرمين ويتحول إلى مجرم محترف، وكأن السجون في العراق تحولت إلى "معاهد لتخريج المجرمين" بدلاً من أن تكون مراكز للإصلاح...!

نعم قد أثار الإعلامي تمام عبد الحميد نقاشاً مهماً حين حذر من أن سجن الصبي سيؤدي إلى "تخريجه مجرماً محترفاً" نتيجة اختلاطه بعتاة المجرمين داخل السجن، وهو اعتراف صريح بأن السجون العراقية تحولت إلى أوكار لإنتاج الجريمة وتكريرها.

وهنا يبرز سؤال كبير: أين دور وزارة العدل؟ أين برامج إعادة التأهيل؟ أين منظمات المجتمع المدني؟ وأين الزعماء السياسيون ورجال الدين الذين يرفعون شعارات الإصلاح وحقوق الإنسان؟

لقد أصبحنا ندرك جميعاً أن تفشي الجريمة والمخدرات ليس وليد لحظة عابرة، بل نتيجة تراكم فساد سياسي وإداري تغلغل في مؤسسات الدولة، حتى أصبح بعض الفاسدين شركاء في كل كارثة كبرى، وسرقة عظمى، ومجزرة مروعة... ؛ و بدلاً من أن يكفّر هؤلاء عن خطاياهم، تراهم يزدادون انغماساً في الفساد ويتركون ضحاياهم فريسة للفقر والانحراف.

الحقيقة أن ما يجري ليس مجرد حادثة فردية بل مرآة عاكسة لواقع اجتماعي وسياسي مأزوم... ؛ فالفساد المستشري في مفاصل الدولة، والتناحر على السلطة، وتغييب العدالة الاجتماعية، كل ذلك ساهم في تفشي الجريمة والمخدرات والبطالة بين الشباب كما اسلفنا ... ؛ ومن المؤسف أن لا نرى مبادرات جدية من الساسة وكبار رجال الدين وأصحاب الثروات لمساعدة الفقراء والمحرومين أو رعاية الأيتام وضحايا الحروب والسياسات الفاشلة، في حين يقوم مواطنون بسطاء وناشطون مدنيون بمبادرات عظيمة من مواردهم المحدودة.

والمدهش أنه في الوقت الذي نرى فيه مواطنين شرفاء مثل الناشط هشام الذهبي – الذي آوى الأيتام – أو المواطن عباس كطوف – الذي جمع ألف دينار فقط من كل متبرع لبناء بيوت ومدارس – نجد السياسيين وكبار رجال الدين وأصحاب الثروات الطائلة غائبين تماماً عن هذه المشاهد الإنسانية، وكأن التوفيق قد سُلب منهم، أو لأن أموالهم ملوثة بالحرام فلا تنفق إلا في الفساد والملذات أو لانهم بخلاء حد اللعنة .

فالمفارقة أن ما عجزت عنه الحكومة وأحزابها وساستها، فعله مواطن بسيط آثر أن يظل اسمه مجهولاً، فسدّد المبلغ المسروق وتبرع بوظيفة كريمة للصبي، مكرساً درساً أخلاقياً في التضامن الاجتماعي والمسؤولية الوطنية... ؛ بينما يغيب عن هذه المواقف الانسانية والوطنية كبار رجال المال والسياسة والدين الذين يمتلكون ثروات هائلة، اذ لا نرى منهم سوى الصراع على السلطة والمال والنفوذ ... .

*تحليل الحادثة:

ليست الحوادث الجنائية مجرد وقائع يُحكم عليها بنصوص القانون فحسب، بل هي مرايا تعكس تفاصيل الواقع الاجتماعي والسياسي بكل تعقيداته. وقضية الصبي "علي" المولود عام 2008، والذي اعتقل مع والده سائق التكتك بتهمة سرقة متقاعدين، ليست مجرد قضية جنائية عابرة، بل هي حالة دراسية معبّرة عن أزمة متعددة الأبعاد: اجتماعية، وأخلاقية، وإنسانية، ومؤسسية.

فمن الناحية الاجتماعية، تبرز القضية إشكالية التفكك الأسري وانهيار دور الأب، الذي تحوّل من معيل وموجه إلى محرّض ومفسد، حيث أغرى ابنه - بعد خروجه من السجن - وضغط عليه ليشاركه في جرائم سرقة كبار السن من المتقاعدين، مستغلاً ضعفهم وحاجتهم... ؛ هذا الانزياح في الدور الأبوي يضع عبئاً جسيماً على كاهل الأم، التي ظهرت في رواية ابنها كرمز للتضحية والعطاء، حيث عملت وكدت لتربية أبنائها وحمايتهم من العمل وهم صغار، حتى كبروا وأصبحوا عوناً لها.

و المشهد الأكثر إيلاماً ... ؛ لحظة انفعال الصبي علي خلال مقابلته التلفزيونية مع الإعلامي "تمام عبد الحميد"، حيث انهمر دمعُه على بدلته الصفراء (بدلة الاتهام) وهو يصرخ طالباً أمه، معبراً عن حبه لها وعدم تحمله فراقها... ؛ هذه اللحظة الإنسانية الخام هزّت مشاعر العراقيين جميعاً، رجالاً ونساءً، لتمسّ أعمق قيم البراءة والشفقة في المجتمع... ؛ و لقد حوّل التفاعل الجماهيري العفوي، عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، القضية من ملف جنائي مغلق إلى "قضية رأي عام"، تطالب بالرحمة وإعادة تأهيل الصبي، لا بتدمير مستقبله.

*تحليل تداعيات الحادثة ودلالاتها:

1. القانون بين النص والروح: كشفت القضية عن صراع عميق بين تطبيق النص القانوني المجرد وبين روح العدالة التي يجب أن تراعي الظروف المخففة... ؛ فالمطالبات بإقامة الحد على صبيٍّ لم يبلغ سن الرشد، ولم يُسجل عليه أي جنحة سابقة، وتم إغراؤه من قبل والده، تكشف عن قسوة مجتمعية متلبسة برداء القانون، تتناسى أن غاية العقاب هي الإصلاح والردع، لا الانتقام والتدمير... ؛ وكما يقول المثل المصري الشعبي: "ياما بالحبس مظاليم"، وهو ما ينطبق على هذه الحالة بشكل صارخ.

2. دور الإعلام... بين الإصلاح والكشف عن الخلل: لعب الإعلامي "تمام عبد الحميد" دوراً محورياً أشبه بدور "الوسيط المجتمعي"، فلم يقتصر على نقل الخبر، بل تحول إلى فاعلٍ في حل الأزمة، بتوسطه لاستعادة المبلغ المسروق (مليون ونصف دينار) من متبرع مجهول، وإقناع المتقاعدين المسروقين بالتنازل عن الحق الشخصي... ؛ إلا أن تصريحه الأهم، والذي توسل فيه للمتقاعدين، كشف عن خلل مؤسسي خطير، حين حذّر من أن "دخول الصبي السجن سيجعله يتخرّج على يد عتاة المجرمين" ليتحول من بريء إلى مجرم محترف كما اسلفنا ... ؛ هذه العبارة، وإن قصد بها إنقاذ الصبي، فإنها تسجل إدانة صريحة ضد مؤسسات الدولة القضائية والإصلاحية، وتكشف أنها أصبحت "أوكاراً لتخريج المجرمين" بدلاً من أن تكون مراكز إصلاح وتأهيل حقيقية .

3. المجتمع المدني والدولة.. أين الدور؟: تطرح القضية سؤالاً وجودياً عن دور مؤسسات الدولة الرسمية (وزارة العدل، حقوق الإنسان، الأوقاف) ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية ورجال الدين... ؛ فبينما يتدخل مواطنون عاديون للإصلاح والتبرع (كمتبرع المبلغ المجهول، أو الناشط "هشام الذهبي"، أو المواطن "عباس كطوف" بجهوده الخيرية)، نجد غياباً مخجلاً لهذه المؤسسات الكبيرة ذات الإمكانيات الهائلة... ؛ هذا الغياب ليس بريئاً، بل هو جزء من ثقافة الفساد المؤسسي المستشري، حيث تتحول هذه الهيئات إلى أدوات لخدمة أجندات سياسية وصراعات نخبوية، بعيدة كل البعد عن هموم المواطن البسيط ومعاناته.

4. الفساد.. المنبع الأساسي للجريمة: الخيط الخفي الذي يربط كل هذه الأحداث هو "الفساد" بوصفه الآفة الأم التي تنتج كل هذه الآفات... ؛ فما يرتكبه الأب من جرائم، وما تعانيه الأسرة من فقر، وما تواجهه المؤسسات من انهيار، هو نتاج طبيعي لسياسات فاسدة، وثروات مسلوبة، وقرارات تُتخذ لخدمة مصالح فئة قليلة على حساب الشعب... ؛ إن من يسرق المليارات من أموال الدولة، ثم يتشدق بتطبيق القانون على صبي سُرق منه طفولته وضُغط عليه ليرتكب جريمة بدافع الحاجة، هو أكثر خطراً على المجتمع وأمنه من أي متهم صغير... ؛ فشرعية القانون تُستمد من عدالته ورحمته، لا من قسوته وعماه.

الخاتمة:

قضية الصبي "علي" هي قصة إنسانية عن البراءة المهدورة، والفساد المنتشر، والمجتمع الذي يحاول أن يجد طريقه نحو الخير رغم كل شيء... ؛ إنها دعوة لإعادة النظر في أولوياتنا كدولة ومجتمع، ولتذكر أن غاية القانون هي تحقيق العدالة الاجتماعية وحماية الضعفاء، وليس إضافة ظلم إلى ظلم... ؛ فالحل لا يكمن في تشديد العقوبات، بل في مكافحة الفساد من جذوره , وتجفيف منابع العنف والظلم ، وإصلاح المؤسسات، وبناء نظام اجتماعي عادل يحمي "علي" وأمثاله من السقوط منذ البداية.

نعم ان قضية الصبي علي ليست مجرد حادثة جنائية، بل هي مرآة تعكس واقعنا الاجتماعي والسياسي، وتضعنا أمام سؤال مصيري: هل نريد أن نعيد تأهيل أبنائنا وإصلاح مجتمعنا، أم نريد أن نحول السجون إلى مصانع للجريمة ونترك الأطفال والاحداث والصبيان فريسة لضغوط الفقر والفساد؟

وكما اسلفنا فان قضية الصبي علي تكشف خللاً بنيوياً في المجتمع والدولة معاً، وتدق ناقوس الخطر بشأن مستقبل آلاف الصبية الذين قد يتحولون إلى مشاريع جريمة بسبب الفقر والحرمان والبيئة الفاسدة... ؛ فهل سيتحول هذا التعاطف الشعبي إلى ضغط حقيقي لإصلاح النظام القضائي والسجون ، أم تبقى دموع علي مجرد لحظة عابرة على شاشة التلفاز؟!




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=208141
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 09 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 09 / 20