التيه ليس مرضاً طارئاً أو لحظة عابرة، بل حالة وجودية عميقة تنبع من تصدّع العلاقة بين الإنسان وذاته، ومن غياب التصور الواضح لمعنى الحياة أو الاتجاه الذي ينبغي أن يسلكه الفرد... ؛ هذا الشعور، الذي بات سمةً مشتركة لجيل كامل، لا يقتصر على مرحلة عمرية أو تجربة بعينها، بل يتسلل إلى نفوس الكثيرين، مهما تفاوتت خلفياتهم وظروفهم.
نراه في السؤال الذي يتكرر كثيراً: "كيف أتخلص من شعوري بالضياع؟" وهو سؤال يكشف في جوهره عن حاجة داخلية ملحّة للثبات، للانتماء، للمعنى.
ففي زمن تكثر فيه الخيارات وتتشعب فيه المسارات، يتبدد التركيز، ويضعف عمل البوصلة، وتتفاقم الحيرة... ؛ يعيش الفرد وكأنه واقف على هواءٍ، يخشى السقوط في كل لحظة، ويرتبك أمام قرارات الحياة، حتى أبسطها.
لكن، كيف يمكننا قراءة هذا الشعور قراءة تنموية نفسية واجتماعية تساعد على استيعابه بدل الفرار منه؟ وكيف يمكننا تفكيك أسبابه دون تهويل أو تقليل؟
أولاً: ما هو شعور الضياع؟
الضياع ليس مجرد حالة ذهنية، بل انعكاسٌ لتصدّع داخلي في إدراك الذات وهويتها ورؤيتها المستقبلية... ؛ إنه شعور بالفراغ والتشتت، وتبلد الرغبة، وغياب الوضوح في الاتجاه أو الهدف... ؛ وهو، في عمقه، قد يكون مؤشراً على نمو داخلي غير مكتمل، أو على حاجةٍ غير ملبّاة في بعدٍ نفسي أو معرفي أو اجتماعي.
هذا الشعور طبيعي تماماً، يختبره كثيرون ؛ خصوصاً في فترات التحوّل كمرحلة المراهقة، أو ما بعد التخرج، أو عند تغيّر المسارات الحياتية... ؛ إنه جزء من الوعي المتزايد بالذات، ومن الرغبة في الانتقال من "العيش على الهامش" إلى حياة تحمل معنى وغاية.
ثانياً: لماذا نشعر بالضياع؟
يمكن تلخيص أسباب الشعور بالضياع في عدة أبعاد:
البعد النفسي: هشاشة الهوية، ضعف التقدير الذاتي، انعدام الرؤية الشخصية، أو تجارب صادمة لم تُعالَج بعد.
البعد الاجتماعي: ضغوط المجتمع، توقعات الأهل، المقارنة بالآخرين، وتأثيرات وسائل التواصل التي تعكس واقعاً زائفاً عن النجاح والسعادة.
البعد التنموي: غياب المهارات الحياتية، كالتخطيط، واتخاذ القرار، وإدارة الوقت، والقدرة على ضبط العادات.
البعد الوجودي: غياب الأسئلة الكبرى عن الحياة والموت والهدف والمعنى، أو تجاهلها خوفاً من الجواب.
ثالثاً: كيف نتعامل مع هذا الشعور؟
1. التقبل دون استسلام
الخطوة الأولى في طريق التعافي هي الاعتراف بالمشكلة وتقبل الشعور دون تهويل أو إنكار... ؛ فالشعور بالضياع لا يعني أنك فاشل، بل أنك بدأت تتساءل... ؛ وهذا أول خيط من خيوط الوعي.
2. الهدوء وسط الضجيج
نعيش في عالم صاخب، مليء بالمشتتات... ؛ ولكي نسمع صوتنا الداخلي، علينا أن نتعلّم فنّ العزلة المؤقتة... ؛ ليس الهروب من الناس، بل الالتفات إلى الذات دون وسطاء... ؛ فكل إجابة حقيقية تبدأ من الصمت، من التأمل، من التوقف عن السعي خلف توقعات الآخرين.
3. السؤال الجوهري: من أنا؟
ابدأ من هذا السؤال البسيط العميق... ؛ من أنت؟ ما الذي تريده فعلاً، لا ما قيل لك أنك يجب أن تريده؟
اكتب، تأمل، تحدّث مع مرشد، اقرأ في الفلسفة والتنمية، لكن لا تهرب من السؤال... ؛ فالذي يعرف ماذا يريد، يضع قدمه على بداية الطريق.
4. روتين يومي مليء بالمعنى
حياتك اليوم هي تراكم عاداتك بالأمس... ؛ غيّر عاداتك، تتغير رؤيتك... ؛ قلل من الاستهلاك الرقمي، وأضف أنشطة تغذي روحك: المشي، القراءة، التعلّم، التأمل، الكتابة، الرياضة... ؛ كل عادة إيجابية، هي لبنة في بناء الاتزان النفسي.
5. تخلَّ عن دور الضحية
اللعب بدور الضحية يمنحنا راحة مؤقتة، لكنه يمنعنا من التقدم... ؛ لا أحد مسؤول عن حياتك سواك... ؛ لا تسمح للظروف أن تصوغ مصيرك... ؛ سامح ماضيك، لكن لا تَسْكنه.
6. ابحث عن إلهام واقعي
القدوة ليست شخصاً مثالياً لا يخطئ، بل شخص يمكن أن تتعلم منه... ؛ تابع من يلهمك، لا لتقلّده، بل لتفهم كيف شق طريقه في عالم معقّد... ؛ استمع للبودكاست، تابع تجارب من سبقوك، اقرأ السير الذاتية.
7. نمّ مهاراتك
المهارات تعطيك الثقة، وتفتح أمامك الأبواب... ؛ تعلّم مهارة جديدة كل شهر، ولو بسيطة: لغة، كتابة، برمجة، تفاوض، إدارة، مهارات تواصل... ؛ كل مهارة هي طوبة في بناء شخصيتك.
8. اكتسب المعرفة
المعرفة ليست ترفاً، بل ضوء... ؛ كلما قرأت، كلما ازدادت وضوحاً أمامك خارطة الحياة... ؛ اقرأ في علم النفس، الفلسفة، الرواية، الدين، الاقتصاد، وتعلّم من الحياة ومن الناس.
رابعاً: الضياع قد يكون نعمة
أحياناً، يحتاج الإنسان إلى أن يضيع ليجد الطريق... ؛ ففي لحظات التشتت، تنشأ الأسئلة، وتبدأ محاولات البحث عن الذات... ؛ قالضياع قد يكون الفسحة التي تمنحنا فرصة إعادة اكتشاف أنفسنا بعد أن عشنا طويلاً في قوالب الآخرين.
تروي إحدى التجارب الشخصية كيف أمضى صاحبها عاماً كاملاً بعد التخرج في عزلة اختيارية، قرأ، كتب، تأمل، تطوّع، وخرج من التجربة وقد اتخذ قراراً جريئاً بتغيير مساره المهني من الهندسة إلى الأدب... ؛ عامٌ اعتبره البعض انتحاراً وظيفياً، لكنه كان، في حقيقته، لحظة ولادة جديدة.
خامساً: ختامٌ بنبرة رجاء
أنت لا تحتاج إلى سيرة حياة مدهشة حتى تشعر أنك وجدت نفسك... ؛ أحياناً يكفي أن تكون راضياً، صادقاً مع ذاتك، محاطاً بأشخاص يحبونك دون شروط، وأن تمشي ولو خطوة واحدة كل يوم باتجاهٍ تحبه... ؛ إنّ التيه ليس عدواً، بل دافعاً... ؛ والألم ليس نهاية، بل بداية وعي.
|