بين الحين والآخر وعندما يحين موعدا لصرف استحقاق او للإنفاق تخرج التصريحات بوجود عجز في الإيرادات وتلك باتت سمة تلازم دفع الرواتب شهريا او غيرها من الالتزامات ، والعجز في الإيرادات قد يكون حقيقة او محط ادعاء ، وحقيقتها إن كل الموازنات الاتحادية التي صدرت للسنوات 2004 - 2025 تضمنت عجزا ماليا ، ومصدر هذا العجز هو الفرق بين تخمينات الإنفاقات وتخمينات الواردات ، والبعض يدعي إن هذا العجز وهمي او متعمد هدفه الحد من الإسراف في الإنفاق ، بدليل إن اغلب الموازنات التي فيها عجز في موازناتها تظهر فائضا في الميزانيات ، ولكي لا يختلط الأمر عند البعض ، نود التذكير بان ( الموازنة ) أداة تخطيطية للسنة القادمة وتعتمد على التخمين والتقدير والتبوء وغيرها من المعايير، في حين ( الميزانية ) هي أداة تاريخية تعرض النفقات والإيرادات الحقيقية او الفعلية للسنة المالية التي تم التخطيط لها ، ولأغراض المقارنة والتقويم وإبراء الذمم وغيرها من المعطيات فمن المفروض أن تتم مناقشة موازنة السنة المالية بعد انتهاء مدتها المحددة من خلال مقارنتها بالميزانية الفعلية للتعرف على عدة أمور منها مصير العجز المخطط فهل بقي على حاله او نقص بمقدار معين ( والزيادة غير مقبولة لأنه يعني تجاوز حدود التخصيصات ) ، ومصير الفرق بين النفقات والإيرادات بقي حسرة على المطلعين لسبب بسيط جدا وهو إن الحسابات الختامية في بلدنا لم تحتل الأهمية الأسبقيات ، وبرهان ذلك إن الحسابات الختامية للسنوات 2013 ولحد اليوم لم تنجز بعد والمنجز السابق منها لم يعطي كامل المنفعة لان تقويمها تم بعد سنوات او انه مرر بقدر محدود من الحدية والمناقشة وعدد الجلسات .
والقصد مما تقدم هو الإشارة إلى إن العجز هو محل افتراض وان وقوعه بشكل إجمالي لا يمكن التحقق منه إلا بعد انتهاء إعداد الحسابات الختامية ، وحسب ما كان يروج فان بعض الموازنات للسنوات السابقة حققت فائضا رغم ما تضمنته من عجز لدرجة إن بعض الكتل في مجلس النواب طالبت في حينها بإصدار قانون لتوزيع الفائض ، فالبعض اقترح توزيعه على عدد السكان والبعض اقترح تخصيصه لبعض الفئات والفقرات ، ولم يوزع منه شيئا ولكن بعضه ربما تم تدويره على اللاحق من السنوات ، وبغض النظر عن مقدار الفائض وأوجه التصرف به فان البعض يكرر السؤال لماذا يضعون عجزا في الموازنات وبلدنا فيه الكثير من الإيرادات ، وهذا السؤال سرعان ما يتم الرد عليه بان 90% من إيرادات الموازنة تمول من صادرات النفط و10% او اقل تمول من الإيرادات المحلية غير النفطية ، ويتكرر ذات السؤال لمرات ومرات هل يعقل بان تشكل إيراداتنا المحلية هذه النسبة المتواضعة ، ومن الناحية الحسابية إذا كانت تخصيصات الموازنة 150 تريليون دينار فهل من المعقول أن لا تزيد الإيرادات عن 15 تريليون خلال 12 شهر ، وحجة المواطن في هذا السؤال إن الدولة متمددة في انتاج وتقديم السلع والخدمات وان المواطن يدفع مبالغ هنا او هناك ولا يعقل أن تكون بهذا المقدار ، وبهذا الخصوص تطرح مئات الأسئلة بخصوص مصير إيرادات الدولة ومنها :
( المنتجات النفطية المنتجة محليا ، المرور من المعاملات والغرامات ، التسجيل العقاري والمحاكم وكتاب العدول ، الماء والمجاري والكهرباء ، الضرائب على الدخل والمهن والسكن والعقارات ، المستشفيات والمراكز التخصصية بالعام والخاص ، الكمارك والمنافذ الحدودية ، شركات الهاتف النقال ، التعليم العالي من أجور الدراسة والمكاتب الاستشارية والصناديق ، النقل البري والجوي واستخدام الأجواء وخدمات الطائرات ، الخارجية من التصديقات ، الفيزا وإقامة العرب و الأجانب ، أرباح بيع الدولار ، إيرادات الشركات العامة من السلع والخدمات ، خدمات دوائر البلدية ، إيرادات وإرباح المصارف لحكومية ، الزراعة والسياحة والمزارات ، غيرها )
ورغم إننا لا نمتلك أرقاما عن مجمل تلك الإيرادات ولا عن تفاصيلها ولكن من الممكن تقديرها بمبالغ كبيرة كونها مستمرة وشاملة وملزمة للمستفيد ، وإذا تم السؤال لماذا لا تغطي جزءا مهما من النفقات فمن المتوقع ورود إجابات جاهزة ومفادها إن تلك الإيرادات لا تدخل جميعا لخزينة الدولة و لعدة أسباب :
أولها : أنها تذهب لبنود ضمن عدة مسميات بعناوين الصناديق والتمويل الذاتي وغيرها من الانواع ، فبعض الإيرادات تخضع لقوانين وأنظمة تجيز الصرف من تلك الإيرادات لتغطية المصروفات في مجالات عديدة منها توزيع الأرباح والمكافآت التشجيعية والحوافز وغيرها من تلك المدفوعات ، ويتم كل ذلك في ظل الحاجة لتطبيق مبدأ وحدة الإيراد الذي يصطدم بتلك التشريعات ، وبموجبها ليس من حق وزارة المالية توحيد وجمع الإيرادات ثم إعادة توزيعها على وحدات الإنفاق ، وهذه التشريعات أوجدت منفعة للكثير من العاملين في الدولة من الموظفين والأجراء وبسببها نجد تباينا في مقدار مدخولات الموظفين فالبعض يستلمون رواتب والبعض الآخر يضيفون لها مخصصات والبعض يضيف لها الحوافز والمكافآت والبعض الآخر تخصص له الأرباح رغم أن الجميع تحت تسمية ( موظف ) وان كان المرفق الذي ينتج الإيراد مملوكا للدولة ، وبسبب كل ذلك تتعالى الأصوات بأهمية وعدالة تشريع قانون عادل و موحد للخدمة يتقاضى فيه العاملون راتبا محددا وفقا لقياسات .
ثانيها : أنها لا تدخل في الخزينة بسبب الفساد والالتفاف على التعليمات والقوانين وهناك أمثلة عديدة على ذلك منها سرقة المصرف التجاري وأمانات الضرائب وفضيحة إيرادات المرور التي كشفت عن وجود مليارات لم تسجل ووجد فيها الفساد ، ناهيك عن عشرات الأمثلة التي كشفتها هيئة النزاهة والقضاء او التي لم يتم الكشف عنها لأنها مغطاة ، وهناك سرقات من الإيرادات بطرق أخرى عندما يتم استبدال إيراد الدولة بإيراد لصالح الفساد في أماكن بأجهزة الدولة وبعضها واضحة للعيان في الضريبة والتسجيل العقاري والبلديات والكمارك وغيرها من التفاصيل أشار لبعضها دولة رئيس الوزراء في العديد من اللقاءات .
ثالثها : الإيرادات التي لم تتم جبايتها لعوامل وأسباب عديدة منها ضعف أداء الأجهزة الإدارية والفساد والضغوطات ، ومن أمثلتها قوائم الكهرباء التي تقدر بتريليونات كل عام وأجور الماء التي لم تجبى منذ 2003 في العديد من الأماكن وأجور الهاتف والضرائب والتي يتم التستر عليها والبضائع التي تدخل وتخرج من منافذ خارج سيطرة الدولة وعصيان البعض عن تسليم ما عليهم من التزامات واستحقاقات ، وليس ذلك غريبا فباستطاعة أي موظف فاسد استلام إيراد وعدم تسجيله لقاء وصل مزور يتم طبعه بأي مكان .
ولا يقف الموضوع عند حد الإيرادات ، فالنفقات هي التي تسبب العجز في الموازنات عندما يتم اتفاق مبالغ في غير محلها المطلوب بسبب الفساد او المبالغة وضعف الكفاءة والرقابة وغيرها من الأسباب ، فأحيانا ننفق في مكان كان من المفترض أن تكون إيراد وليس إنفاق ، ومنها مثلا شركات التراخيص إلي تستنزف أموالا كبيرة من العراق والتي كان من الممكن تعويضها كلا او جزءا من الشركات الوطنية مع وفرة العاطلين وشركات الهاتف النقال التي جنت عشرات المليارات رغم أنها تستخدم البنى التحتية للوزارات ، وإمام هذه الصور فمن حق الجمهور أن يطالب بمعالجات ، وللحق نقول أن تلك الأمور ليست مستحيلة ولكنها صعبة المعالجة ، فبلوغها يتطلب التقاء الإرادة والإدارة والعمل الجمعي والبيئة المناسبة الساندة والطاردة للهدر والفساد ، وتلك الأشياء تحولت لأمنيات يمكن أن تتحقق يوما بالإصرار والصبر والأفعال !! .
|