راودتني تساؤلات حارقة: هل أنا أسيرةُ هذا القلق؟ هل ولدت به؟ وكيف له أن يتعاظم في نفسي كلما حاولت كبحه؟ ثم تصاعد في داخلي سؤالٌ مريرٌ يكاد يلتهمني: «من صاغ هذه القيود؟ من نصبها في نفسي؟ وكيف لها أن تسيطر عليّ؟» أحسست حينها أنني في معركة حقيقية، معركة ليست بيني وبين أحد، بل بيني وبين ذاتي، بين نورٍ في أعماقي وظلامٍ يزداد كثافة كلما انجرفت نحو الشك.
وقفت تاركةً مقعدي، وتقدمت نحو اللوحة كأنني أريد أن أفرغَ عبرها ما في داخلي من أسئلة؛ وفي تلك اللحظة، شعرتُ بنورٍ خافت يتسرب إلى قلبي، يذكرني بحقيقة غائبة عني وسط هذا الظلام، تذكرت قول سيد البلغاء عليّ (عليه السلام): «لا تستوحشوا الطريق لقلة سالكيه».
إنها كلمات ترشدني إلى أنّ هذا الطريق، طريق الحق، هو صراعٌ أبديٌ في دنيا هي دار ابتلاء، دارٌ يغيبُ فيها إمامنا صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه الشريف)، وتحاصرنا فيها البلايا ووساوس الشك.
في زمن الغيبة، يزداد البلاء ويشتدّ الظلام على قلوب المؤمنين، وكأن كل اختبار، وكل فتنة هي محنة تمتحن ثبات الروح. في هذا الزمن، نجد أنفسنا كأننا في بحرٍ هائج، تتقاذفنا فيه موجات الشك والقلق، وقلّ من يتمسك بطوق النجاة الذي تركه لنا آلُ البيت، نور محمد وآل محمد، الذين حملوا لنا إرث النور في قلب هذا الظلام الدنيوي.
دفعني هذا النداءُ الداخلي إلى مغادرة مكاني، نحو الوجهة التي يستقر فيها نور الطمأنينة، فقررت التوجه إلى ضريح الكفيل، أبي الفضل العباس، رمز الجود والعطاء. وصلت إلى عتبته، وقفت عند الباب، ملقيةً بحملي الثقيل، وهمست باكيةً: «يا أبا الفضل، أدركني...».
وفي تلك اللحظة، وجدت أن دموعي تتدفق كأنها تحمل معها الظلمة، وشيئاً فشيئاً انحسر الليل من داخلي وبدأ النور يتسلل، فأيقنت أن هذه الحياة ما هي إلا مسرحٌ لامتحان الصابرين في غياب وليّ الله، صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه)، وأن سبل النجاة لا تنفك تتعلق بمحبتنا لهم.
بدأت أرى نفسي كشجرة ثابتة الجذور، جذورها تمتد عميقاً في محبة أهل البيت (عليهم السلام)، تمنحني صلابةً أمام كل ريحٍ عاتية، كل فتنة تهب علينا في عصر الغيبة، وتدفع أغصاني نحو السماء، نحو النور الذي ينبع من عمق إيماننا ويثبتنا في وجه هذه الدنيا الزائلة.
وفي سكون ذلك الصباح، بعد أن صليت الفجر جماعةً في الحرم، وقفت عند الضريح ونظرت إلى السماء بابتسامةٍ واثقة، مدركةً أن قوة المؤمن الحقيقية تكمن في الثبات على طريق الحق، حتى وإن بدا الطريق مهجوراً، وأن النجاة في التشبث بالحبل المتين، حبّ محمد وآل محمد، الذي يقودنا إلى برّ الأمان في زمن البلاء والانتظار.
|