سِرْ بها يا عليّ:
لقد سلسل الإمام الحسن (عليه السلام) من خلال سرده الحوادث المشهورة التي ميّز بها النبيّ (صلى الله عليه وآله) أهل بيته وخاصة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومنها حادثة تبليغ سورة البراءة التي تعدّ من الحوادث المشهورة التي ثبت الله (عز وجل) فيها فضل أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ حيث أن البراءة من المشركين حصر الله (عز وجل) إبلاغها لهم بواسطة النبي (صلى الله عليه وآله) أو رجل من أهله. ومن يكون هذا الرجل غير أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي هو صنوه وأخوه ونفسه ومنزلته منه كمنزلة هارون من موسى.
فإنّ جبريل (عليه السلام) أبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ربّ العزة، أن: «يا محمد، لا يبلغ عنك إلا أنت أو رجل منك» (1).
وهذه الرواية لها دلالات خاصة، ومنها:
أولاً: إنّ تأدية البلاغ عن النبي (صلى الله عليه وآله) في خصوص هذه المسألة يحتاج إلى صلابة وحزم، وإصرار وقدرة على التصرف في مثل هذه الظروف، ورجل يمتلك عزة ومهابة عند أعداء الله ورسوله، ومن يملك هذه الصفات غير الإمام علي (عليه السلام).
ثانياً: إن وظيفة التبليغ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما هو مبلغ عن الله سبحانه وتعالى من الأمور تتعلق بدين الله تعالى التي ترتبط بشرعه وبكتابه سبحانه تكون من شأن الإمام المعصوم بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، لارتباط وثيق فيما بين مقام الإمامة ومقام النبوة.
فالإمامة بما هي مقام إلهي، فإنها كمقام النبوة تماماً، فلا يبلغ عن النبي (صلى الله عليه وآله) في مثل تلك الشؤون إلا خليفته ومن هو بمنزلة هارون من موسى منه. فإرساله للإمام علي (عليه السلام) بهذه الرسالة إلى المشركين وهم الذين خبروه في كل المواقع، بدءًا من الأيام الأولى للدعوة، وفي زمان الحروب، فلا بد أن يكون لهذا الشخص وقع خاص في نفوسهم ووجوده سيقصم ظهورهم، ويميتهم في حسراتهم، ويبدد لهم آمالهم، وفي هذا تأكيد منه (صلى الله عليه وآله) على أن ييأس هؤلاء من الحصول على أي امتياز من النبي (صلى الله عليه وآله)، أو من الإمام علي (عليه السلام) عند إبلاغهم هذه القرارات الحاسمة بواسطة الإنسان الذي لم يزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يؤكد على إمامته، فإن كل ما في بالهم من أوهام على المساومة سوف تذهب مع أدراج الرياح، وستتبدد أمنياتهم ومن ثم تزول.
وبعد شرح هذه الدلالات المنبثقة عن تلك الحادثة، لا بد أن نبيّن للقارئ الكريم أنّ بعضهم حاول ذرّ الرماد في العيون؛ حين أثاروا شبهتين حول هذه الحادثة:
الشبهة الأولى: قال بعضهم: «إنّ الشيعة هم فقط من يدعون هذا، ولا دليل عليه أنه لا يبلغ عن النبي (صلى الله عليه وآله) إلا هو نفسه أو رجل من أهل بيته» (2).
الشبهة الثانية: قام بعضهم الآخر بتضعيف الرواية التي تتكلم عن تكليف النبي (صلى الله عليه وآله) للإمام علي (عليه السلام) بأن يؤدي عنه، وقالوا إنه: «خبر شاذ» (3).
ونجيب: بالنسبة لهذين الإشكالين، فإنه لا يخرج عن مجرد نفي أو تكذيب أي خبر يتعلق بمناقب أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ فيلجأ هؤلاء إمّا لنفي المنقبة أو تضعيف الخبر، ولا بد من لفت نظر هؤلاء إلى بعض الأمور فيما يتعلق بخبر تبليغ سورة البراءة، وهي:
أولاً: لو كان الخبر من ناحية السند ضعيفاً أو شاذاً كما ادعى بعضهم، لما رأيت مصادر المسلمين زاخرة بذكر هذا الخبر، ولما تم تناقله فيما بينهم.
ولو أنّ الشيعة هم فقط من يدّعون أنّ الإمام عليّا (عليه السلام) هو الذي يؤدي فقط عن النبي (صلى الله عليه وآله) لما كنا وجدنا مصادر المسلمين قاطبة قد ذكرت هذا الخبر، وعلى أقل تقدير، فإنّ العشرات من المصادر نقلت هذا الخبر وتداولته.
ثانياً: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يقوم بأي عمل عشوائياً – والعياذ بالله – فهو موحى له من السماء، ومرتبط مباشرة بالله (عز وجل) ولا يمكن لعمله أن يكون عبثياً، ومن ادعى أنّ الشيعة هم الذين تفردوا بهذا، فليراجع كتب عقائد المسلمين كافة التي تشهد بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى.
وقد اكتفينا في معرض الرد على هذا الكلام بهاتين النقطتين، وإلا احتجنا لمطولات للردّ على مثل هذا الكلام، والردّ الذي قدمناه بما يسمح به المقام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المستدرك: للحاكم ج3/ ص51، وتخريج الأحاديث والآثار: ج2/ ص50، وشواهد التنزيل: ج1/ ص318، وذخائر العقبى: ص69، ومسند أحمد: ج1/ ص151، ومجمع الزوائد: ج7/ ص29.
(2) دراسة نقدية «لا يؤدي عني إلا علي»: لتقي الدين السني (فلسطين) ص1، بحث منشور في شبكة الدفاع عن أهل السنة بتاريخ 25/2/2011.
(3) تخريج أحاديث الكشاف، لجمال الدين الزيعلي، تفسير سورة التوبة: ج2/ ص50، ومختصر تلخيص الذهبي، لابن الملقن الشافعي: ج2/ ص1127، والشاذ والمنكر وزيادة الثقة، للدكتور عبد القادر المحمدي: ص93.
|