وادي الرافدين لم يكن مجرد مهد للحضارات الأولى، بل كان أيضا مهدا للرموز الكبرى التي أصبحت خيال الإنسانية وأسئلتها الكبرى. فمن بين آلاف الأساطير والحكايات التي تناسلت على مر العصور، برزت قصتان اساسيتين تشكلان العمود الفقري لمعظم الأساطير والأفكار والفلسفات في الشرق والغرب ، وهما "الطوفان والخلود".
قصة الطوفان، أول ما ولدت في النصوص السومرية والبابلية لتبلغ ذروتها في ملحمة جلجامش حيث يظهر اوتنابشتيم الناجي من الغرق العظيم. ومن هناك ذكرت في التوراة والقرآن الكريم في قصة نوح، وانتقلت الى الأساطير الاغريقية في حكاية ديوكاليون وبيرا، وحتى إلى الموروثات الاسكندنافية. في كل مرة تتكرر القصة بملامح جديدة، لكن رمزها يظل واحدا: التطهير واعادة البداية بعد كارثة كونية. إنها الحكاية التي تمنح الانسان فرصة ثانية وتعيد تعريف العلاقة بين البشر والألهة، وبين الانسان والطبيعة.
أما القصة الثانية فهي أعمق وأكثر التصاقا بالوجود البشري: الموت والخلود. ففي ملحمة جلجامش عندما يرى البطل صديقه أنكيدو وهو يواجه الموت لأول مرة، تبدأ رحلة البحث المضني عن سر الخلود ، محاولة لفهم ما وراء الفناء الانساني. هذا السؤال لم يتوقف عند حدود وادي الرافدين، بل وجد صداه في الأساطير المصرية من خلال أوزريس وحلم البعث. وفي الفلسفة اليونانية مع أفلاطون الذي ربط الخلود بالروح، وفي الهندوسية والبوذية عبر مفهوم التناسخ والتحرر من دورة الحياة، وصولا إلى المسيحية حيث ارتبط الخلود بالقيامة والحياة الأبدية.
هكذا، تنوعت الأديان وتباينت الفلسفات، لكن الخيط المشترك ظل حاضرا: كيف تواجه الفناء؟ وكيف تبدأ من جديد؟ إنها أسئلة كبرى لم يتوقف الإنسان عن إعادة طرحها، بصورة وبأساليب شتى، لكنها تعود دوما إلى اصلين ضاربين في أعماق وادي الرافدين.
بين الشرق والغرب، وحدة الرمز وتعدد التأويل. ما يميز هاتين القصتين هو أنهما بنية تحتية للخيال البشري. كل اسطورة، كل دين، كل فلسفة، ليست سوى إعادة صياغة أو تأويل لمستويي الطوفان والخلود. من هنا يبقى وادي الرافدين بأرضه واساطيره ليس فقط مهدا للزراعة والكتابة، بل أيضا مهدا لأعمق رموز الإنسانية وأكثرها رسوخا في الوعي الجمعي.
|