في البدء نتقدم بأحرّ آيات التهاني والتبريكات إلى الأمة العراقية جمعاء بمناسبة اقتحام وادي حوران من قبل القوات المسلحة العراقية البطلة وبمساندة و مؤازرة قوات الحشد الشعبي... ؛ فهذا النصر ليس حدثًا عسكريًا عابرًا، بل يعدّ علامة فارقة في المسار الأمني العراقي و يمثل خطوة استراتيجية تعادل في رمزيتها وقع خبر اندحار فلول "داعش" وتحرير الأراضي العراقية من رجس الإرهاب عام 2017... ؛ خاصة أن هذا الوادي ظلّ لسنوات طويلة مصدر خوف وغموض، تحيط به الروايات والشبهات، ويُنظر إليه بوصفه خاصرة رخوة في الأمن الوطني العراقي.
نعم إن فرحة تحرير وادي حوران تعادل تلك اللحظة التاريخية، إذ أن هذا الوادي ارتبط طويلًا في المخيال الشعبي والنخبوي بالرهبة والغموض وكثرة الحكايات التي أحاطت به... ؛ فالناس كانت تنظر إلى هذا الوادي بوصفه بؤرة غامضة مقلقة كثرت حولها القصص والروايات والخيالات ، وبقي في المخيال الشعبي رمزًا للرعب والخطر الكامن.
لقد أظهرت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والتغطيات الإعلامية مشاهد مصوّرة من الجو لعمليات اقتحام وتأمين هذا الوادي الممتد في عمق صحراء الأنبار, وتبين حجم الإنجاز الأمني الذي تحقق في هذا الوادي الممتد والمعقد جغرافيًا، والذي شكّل لسنوات طويلة مأوى للجماعات الإرهابية والخارجين عن القانون... ؛ فاقتحامه في هذه الظروف الإقليمية المتشابكة والتهديدات الخارجية المستمرة يمثل رسالة صلبة من العراق وحكومته وشعبه إلى الداخل والخارج على السواء... ؛ والرسالة مفادها أن القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية على أهبة الاستعداد لمواجهة أي تهديد، وفي أي مكان، وفي أي وقت... ؛ وهكذا أُسدل الستار على جيب خطير من جيوب الإرهاب والإجرام.
نعم قد جاءت هذه العملية في توقيت حساس يشهد تصاعد التحديات الإقليمية والدولية، لتكون رسالة سياسية–أمنية بليغة للعراقيين أولًا، وللعالم أجمع ثانيًا :
أولًا: الرسالة الداخلية
الاقتحام أعاد الثقة للشعب العراقي بأن قواته المسلحة قادرة على السيطرة على كل شبر من أرض الوطن... ؛ كما أنه أعاد الاعتبار للتحذيرات التي أطلقها الإعلاميون والكتّاب والباحثون الوطنيون لسنوات حول خطورة هذا الوادي... ؛ فالنصر هنا ليس عسكريًا فقط، بل هو أيضًا تثبيت لجدوى اليقظة الأمنية ولقيمة الرأي الوطني الحر الذي يسبق أحيانًا الأحداث بخطوات.
ثانيًا: الرسالة الإقليمية
إلى دول الجوار: العملية تمثل إشارة واضحة بأن العراق لن يسمح بأن تكون صحراؤه الغربية بوابة للتسلل أو ساحة مفتوحة لعصابات الإرهاب العابرة للحدود... ؛ وهذا يطمئن الجوار من جهة، ويبعث في الوقت نفسه برسالة حازمة بأن العراق يمتلك القدرة على حماية حدوده بنفسه، بعيدًا عن أي وصاية خارجية.
إلى القوى الإقليمية المتصارعة: وادي حوران كان يُنظر إليه طويلًا كمنطقة رخوة تسمح بتدخلات إقليمية مباشرة أو غير مباشرة... ؛ واليوم، باقتحامه وتأمينه، يعلن العراق أن سيادته لا تُجزّأ، وأن ساحاته الداخلية لم تعد مجالًا مفتوحًا لتصفية الحسابات.
ثالثًا: الرسالة الدولية
إلى الولايات المتحدة والتحالف الدولي: العملية تضع حدًا للرواية القديمة التي صوّرت وادي حوران وكأنه "منطقة خارجة عن السيطرة"، مما يُبرر بقاء قوات أجنبية في العراق... ؛ باقتحام الوادي، تقول بغداد للتحالف الدولي إنها قادرة على الإمساك بزمام المبادرة، وأن الحاجة إلى الغطاء الخارجي قد تضاءلت إلى حد كبير.
إلى المجتمع الدولي: تحرير وادي حوران يثبت أن العراق شريك فاعل في مكافحة الإرهاب، وقادر على منع عودة التنظيمات المتطرفة، لا باعتباره ساحة حرب فقط، بل كدولة مستقلة قادرة على حماية حدودها وصون أمنها القومي.
#بين التحذيرات السابقة والواقع الجديد
ولعل بعض القراء والكتّاب يتذكرون أنني كنت قد كتبت في السابق سلسلة مقالات بعنوان: "وادي حوران كالجولان محتل من قبل الأمريكان"، وقد حذرت فيها مرارًا من خطورة هذا الوادي، مستندًا إلى شهادات ومعلومات قد يكون بعضها مبالغًا فيه أو غير دقيق، وربما اعتبرها البعض مبالغات أو استنتاجات بعيدة ... ؛ إلا أنني ـ انطلاقًا من قاعدة ثابتة في عملي ككاتب سياسي وطني ـ أتعامل مع الملفات الحساسة بمنهج "سوء الظن من الحزم"... ؛ وكعادتي في معالجة الملفات السياسية والأمنية الحساسة ـ اعتمدت قاعدة راسخة: أن الشك في قضايا الأمن والسياسة يجب أن يُعامل بمنزلة اليقين... ؛ فالكاتب الغيور والإعلامي الوطني لا يملك رفاهية إغفال أي معلومة أو استبعاد أي احتمال، بل عليه أن يسلّط الضوء على كل ما من شأنه أن يثير الانتباه ويحرك الدولة وأجهزتها.
إن المبالغة أحيانًا في توصيف المخاطر ليست سوى وسيلة للضغط على صانع القرار وحثّه على أداء واجبه الوطني... ؛ وإن قصّرت الحكومة، وجب تذكيرها ومحاسبتها، وإن نجحت، كان لزامًا علينا أن نشكرها ونثمّن جهودها... ؛ من هنا تأتي أهمية القلم الوطني الحرّ بوصفه شريكًا في حماية الأمن الوطني... ؛ وعليه، فإن تصريحات بعض القادة العسكريين بأن "وادي حوران آمن" وأن الحديث عنه في الإعلام مجرد تهويل، لم تكن في محلها... ؛ فهذه التصريحات لا تسيء فقط إلى الإعلاميين والباحثين والمحللين الذين يجهدون في تسليط الضوء على مكامن الخطر، بل تدفع أيضًا إلى خلق قطيعة بين المؤسسة العسكرية والنخب الوطنية، وتُضعف من جسور الثقة والتعاون بين الطرفين.
فلا شيء يُترك للصدفة أو الاعتباط، لأن الأعداء يتربصون بالعراق في كل حين... ؛ لذلك أرى أن على الكتّاب والإعلاميين الوطنيين واجبًا يتمثل في إثارة مثل هذه الملفات مهما بدت صغيرة، وممارسة الضغط على الدولة وأجهزتها الأمنية كي تقوم بواجبها كاملاً... ؛ فقد أثبتت التجربة أن الشك في الملفات الأمنية والسياسية الحساسة ليس رفاهية، بل ضرورة وطنية... ؛ فمن طبيعة الأعداء ـ وهم من صنف المسوخ والوحوش ـ أن يستغلوا أي ثغرة، صغيرة كانت أم كبيرة. ولهذا فإن المبالغة أحيانًا في التحذير ليست إلا أداة ضغط على صانع القرار ودعوة للاستعداد المبكر.
ونعيد ونكرر أن تصريحات بعض القادة العسكريين بأن وادي حوران "آمن"، وأن ما يقال عنه في الإعلام مجرد تهويل... ؛ لا تخدم المصلحة الوطنية، بل تسيء للصحفيين والمحللين والمراقبين الذين ينبهون الرأي العام من المخاطر... ؛ كما أنها قد تزرع قطيعة بين المؤسسة العسكرية والنخب الوطنية كما اسلفنا ، في حين أن التلاقي بين الطرفين ضرورة لحماية الوطن.
كما ان وظيفة الكاتب الوطني والسياسي المحنك التعامل مع الشك والمعلومة الامنية وبغض النظر عن حجمها ومصدرها ؛ معاملة اليقين والمعلومة الصحيحة لأن الأعداء لا يعرفون للإنسانية معنى، وهم قادرون على ارتكاب ما يخطر وما لا يخطر على البال.
نعم إن وظيفة الكاتب الوطني والإعلامي الغيور هي تسليط الضوء على المخاطر مهما صغرت، والتنبيه إليها دون تردد... ؛ لذلك قد نبالغ أحيانًا في توصيف التهديدات، لا بدافع الإثارة، بل من باب الحزم واستباق الأخطار وتنبيه القادة والمسؤولين ... .
# خاتمة
إن اقتحام وادي حوران يشكّل نصرًا عسكريًا وأمنيًا ورسالة سياسية كبرى في آن واحد ... ؛ ويمثل صفحة مشرقة في سجل الانتصارات العراقية، لكنه في الوقت نفسه اختبار لقدرة الحكومة على استثمار هذا النصر وتحويله إلى واقع أمني مستقر ودائم... ؛ اذ نأمل أن تكون هذه العملية شاملة وعميقة وكاملة وحازمة ومبنية على خطط استراتيجية طويلة المدى ، وليست مجرد استعراض إعلامي أو حملة خاطفة، وأن تُستثمر نتائجها لتعزيز الأمن الوطني وتحصين الحدود الغربية من أي تسلل إرهابي مستقبلي... ؛ فالمعركة مع الإرهاب لم تنتهِ بعد، غير أن ما تحقق في وادي حوران اليوم برهان جديد على أن العراق قادر على قلب المعادلات، متى ما توحّدت الحكومة مع شعبها وقواتها... ؛ كما ان وادي حوران اليوم أعلن بوضوح أن العراق قادر على مواجهة التحديات والانتصار عليها، وأنه لم يعد الحلقة الأضعف في معادلة الإقليم، بل لاعبًا فاعلًا يعرف متى يبعث برسائله، وكيف يصوغ معادلاته.
|