أودعَ اللهُ تبارك وتعالى في فطرة الإنسان ميلاً لبعض الأشياء المادية، والتي يرى فيها الانسان إشباعاً لجانب من جوانبه النفسية. ويختلفُ هذا الميل من إنسان لآخر، كل بحسب إدراكه ووعيه ومعرفته وقدرته على التمييز.
ومن تلك الأشياء، ميلُ الانسان الى حبّ المال، وهو أمرٌ لا محذور منه على المستوى الشرعي والأخلاقي مادام ضمن الضوابط والحدود والقوانين الشرعية والأخلاقية، يقول الباري (جلَّ شأنه): ((وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا))(1).
ولكنَّ الحبَّ المذموم والممقوت هو أن يستملكنا ذلك المال، وبالتالي نشُحُّ ونبخل في إنفاقه في موارده الواجبة والمندوبة، قال تعالى: ((هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم))(2).
لذا، أنت تجد الذم الواضح والصريح لصفة البخل في كثير من الموارد التي جاءت على لسان الشريعة السمحاء بما تضمنته الروايات الشريفة من نهي شديد وتحذير بالابتعاد عن تلك الصفة، وما يلازمها من أمور أخلاقية ونفسية.
وقد ذمّ الإمام الرضا (عليه السلام) البخلَ بقوله: ((إياكم والبخل فإنها عاهة لا تكون في حرّ ولا مؤمن، انها خلاف الايمان))(3).
ويكفي البخيل تعاسةً أنَّه بعيدٌ من الله، ومن الناس، وقريبٌ من النار، ومنقاد للنفس الامارة بالسوء، فالبخل يقسي القلب، ويجعل الانسان يسيئ الظن بربه خوف الافتقار والعوز، فمن أيقن بالخلف جاد بالعطية.
من هنا كانت البداية للدخول لعالم البخل وانواعه وعلاجه وأسبابه بتحقيقنا الذي سيسلط الضوء على بعض المفاصل المهمة من هذا الموضوع.. وكانت بداية الحوار مع الشيخ عبد العباس الجياشي، فتحدث قائلاً:
البخل: هو إمساك المال وحفظه في مورد لا ينبغي إمساكه، ويقابله الجود والحرص والبخل والتقتير من صفات الكافرين والمنافقين.
والبخل: صفة من أقبح صفات النفس وأخبثها، حيث قال (ص): (السخاء شجرة في الجنة متدلية الى الدنيا، فمن تعلق بغصن من أغصانها جذبته الى الجنة، والبخل شجرة في النار، فمن تمسك بغصن من أغصانها جذبته الى النار)(4).
ولهذا حث على الصدقة، وأن لها فضلاً عظيماً وأهمية كبيرة في حياة المسلم، فلقد حث الإسلام على الصدقة، ورغب فيها وقد أقسم النبي (ص) أنه ما نقص مال من صدقة، فالصدقة تنمي المال وتباركه وتزكيه. وللصدقة فوائد عظيمة، وحسبك أنها تطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى.
وأضاف عبد الرضا البهادلي/ طالب جامعي:
البخل: هو عدم اعطاء الواجب والمستحب من المال، وهو ثمرة شح النفس. إن الله تبارك وتعالى لا يحتاج الى انفاق المنفقين، فله ما في السموات والأرض وهو الغني المطلق، ولكن بخل الانسان وعدم اعطائه الحقوق الواجبة او المستحبة، فإنما يمنع الخير عن نفسه سواء في عالم الدنيا أو عالم الآخرة.
وهناك البعض من الناس عندما يكون فقيراً، يتحسس ويرى آلام الفقراء والمحتاجين لذلك يعاهد الله تعالى متى يرزقه الرزق الواسع، فسوف ينفق منه على الفقراء، ولكن عندما يرزق هذا الانسان الرزق الكبير والواسع، يترك ما عاهد الله تعالى عليه من الانفاق في سبيله.
ومن أسباب البخل:
1- ضعف الايمان، فالمؤمن لا يمكن أن يكون بخيلاً.
2- عدم اليقين والتصديق بوعد الله تعالى حيث أن الله وعد المنفق الزيادة والخلف.
3- حب المال والتعلق به، وكذلك الخوف من المستقبل وما سوف يأتي به، والخوف على الابناء والتفكير في مستقبلهم.
وتحدثت الأخت (أم باقر/ ربة بيت) عن أنواع البخل قائلة:
للبخل صور كثيرة، منها البخل بالنفس، ومنها البخل بالمال، ومنها البخل بالعلم، ومنها البخل بالجاه والمنصب، ومنها البخل بالسلام وهو أسوأ البخل.
كيفية علاج البخل:
1- الاستعاذة من البخل والالتجاء الى الله تعالى.
2- أن يحسن الظن بالله تعالى بأن الله سوف يخلف عليه الزيادة في الدنيا والآخرة.
3- الخير عادة، عليه ان يعود نفسه ولو بشكل تدريجي على الانفاق.
4- ذكر الموت، فإن الانسان عندما يتأمل الموت وأحواله، تهون عليه الدنيا وما فيها.
فيما تحدثت الأخت (أم جعفر/ ربة بيت وطالبة حوزة) عن كيفية تعامل الزوجة مع الزوج البخيل قائلة:
بداية، حاولي أن تتفهمي سبب بخله، واجعليه يشعر برضاك عندما يشتري لكم أي شيء، وأكدي له انك تقدّرين تعبه وإنفاقه عليكم.. لا تشتكي منه او تسخري منه بل اثني على كرمه، وتحدثي عن عطائه امام الناس حتى يسعى للحفاظ على تلك الصورة. كذلك اذكري امامه بطريقه غير مباشرة مضار البخل، ولكن بدون مقارنة، وإلا سيؤدي ذلك الى أثر سلبي عند زوجك.
وأضافت (الاخت أم سارة/ كاتبة ومعلمة) قائلة:
بخل اللسان ذلك العضو الذي به يُثاب الانسان وبه يُعاقب، ومنه ينشر الخير او يفتح أبواب الشر والتجريح بالآخر:
كما قال الشاعر:
جراحات السنان لها التئام ... ولا يلتام ما جرح اللسان
ولو استطلعنا روايات آل البيت(عليهم السلام) بهذا الباب، لنهلنا منها منهلاً عذباً بعيداً عن السيء والفحش من القول، جاء عن إمامنا السّجاد (عليه السلام): «إِنَّ لِسان إبنِ آدَمَ يُشْرِفُ عَلى جَمِيعِ جَوارِحِهِ كُلَّ صَباحُ فَيَقُولُ كَيفَ أَصْبَحْتُم؟! فَيَقُولُونَ بِخَير إِنْ تَرَكْتَنا وَيَقُولُونَ اللهَ اللهَ فِينا وَيُناشِدُونَهُ وَيَقُولُونَ إِنَّما نُثابُ وَنُعاقَبُ بكَ»(5).
كل هذا لتزويد لساننا بالطيب والصالح من الكلمات وخاصة الكلمة الطيبة التي هي صدقة جارية عن الانسان بحياته، وبعد مماته أيضاً.. وهنا مدخل آخر يكون به البخل اللساني مذموماً، وهو بخلنا بعدم الصلاة على الرسول وآله عندما يذكر، فعن أبي ذر (رض) انه قال: ((خَرَجتُ ذات يوم فأتيت رسول الله (ص) فقال: "ألا أُخْبرُكُم بأبْخل النّاس؟ "قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "مَنْ ذُكِرْتُ عنده فلم يُصَلِّ عَلَيَّ، فذاك أبخل الناس"(6).
وتناول الشيخ جمال الطائي موضوعة البخل من زاوية أخرى فقال:
قد يكون بخل اللسان محموداً بحالات منها:
بخل المرأة بكلماتها مع الرجل الأجنبي، فهو ممدوح؛ لأنه محرم عليها الاكثار من الكلام من غير ضرورة، وبما يثير الريبة والشهوة عنده، قال الإمام(عليه السلام):
(خِيَارُ خِصَالِ اَلنِّسَاءِ شَرُّ خِصَالِ اَلرِّجَالِ اَلزَّهْوُ وَاَلْجُبْنُ وَاَلْبُخْلُ، فَإِذَا كَانَتِ اَلْمَرْأَةُ مَزْهُوَّةً لَمْ تُمَكِّنْ مِنْ نَفْسِهَا، وَإِذَا كَانَتْ بَخِيلَةً حَفِظَتْ مَالَهَا وَمَالَ بَعْلِهَا، وَإِذَا كَانَتْ جَبَانَةً فَرِقَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ يَعْرِضُ لَهَا)(7).
وكذلك الاقتصار على المعلوم والمتيقن فقط من الكلمات بحالات الأسئلة الفقهية؛ لأن من السيء الحديث بغير علم، والتشريع بغير فقه؛ لما له من مردود سلبي في نشر الاحكام من غير مصادرها الصحيحة، ولهذا عُد هذا الباب من المفطرات عند الصيام بالكذب على الله تعالى ورسوله(ص).
وختاماً.. من الجميل والنافع أن يكون الإنسان كريماً بلسانه وكلماته الواعية بباب النفع المرتقب؛ ليكون لسانه بلسماً للجراح والآلام التي يرزح تحت وطأتها الآخرون، وكذلك كريما بماله، ومع ذلك بعيداً عن الاسراف والتبذير، وبما يرضي الله تعالى وأسرته ومجتمعه، ونافعاً لهم بما أعطاه الله تعالى من مال ونعمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (الفجر/20).
(2) (محمد/38).
(3) (بحار الأنوار: 78/ 346).
(4) (مستدرك الوسائل: 12/ 212).
(5) (بحار الأنوار: ج68/ ص302).
(6) (ميزان الحكمة – الريشهري: ج1/ ص246).
(7) (مستدرك سفينة البحار: ج10/ ص46).
|