قال الله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )). وعن النبي محمد صلى الله عليه وسلم انه قال " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " .
فالصوم وان كان واجبا شرعيا لازما ، فانه في الوقت ذاته تمرين للبدن والروح لتحمّل مشاقّ الجوع والعطش وحرمان النفس من ملذات الدنيا ومفاتنها .
واذا كان شهر الصوم مناسبة لتنقية الروح من ادران الحياة ، ومراجعة للذات عمّا ارتكبت من اخطاء ، فانه في بلاد المسلمين فرصة لتلاقي الاحباب ، وتسوية الخلافات ، والصفح عن اخطاء الآخرين ، ماكان منها بقصد او بغير قصد .
ولأن لأيام الصيام في العراق طعم خاص ، يتجلى فيها كرم العراقيين وعطفهم ، ويتسابق فيها الصائمون لأداء الطاعات ، فان لأخوتهم وابناء جلدتهم في اراضي المهجر قصصا كثيرة في هذا الشهر الفضيل تنمّ عن المعدن الاصيل الذي انحدروا منه ، والارض الطيبة التي نبتوا فيها .
وربما يدور في خلد البعض ممن لم يجرّب حياة الغربة ووجع الارتحال الاجباري عن ارض الوطن ، ان البقاع الجديدة التي نزل فيها كثير من العراقيين ، بكل مافيها من مغريات ومفاتن ، قد تنسيهم اصولهم التي تربوا عليها ، وتقاليدهم التي عاشوها ، ومنها تجربة صيام رمضان ، وقيام لياليه ، ومزاولة الطاعات التي امر بها الرحمن في هذا الشهر الفضيل .
كما ان البعض يمكن له ان يتصور ( عن قصر نظر ) ان المكان هو الذي يمكن ان يحدد سلوك الناس ، فان كان فضيلا كان الناس فيه فضلاء ، وان كان عكس ذلك ، فأن مفاسده يمكن ان تنسحب عليهم .
ولهؤلاء واولئك نقول : ان المعدن الاصيل والحجر الكريم ، دائما مايخرج من جوف ارض جرداء ، يختلط فيها بالرديء من المعادن والرخيص من الاحجار .
والعراقيون في المهجر رغم مرارة غربتهم ، والمسافات الشاسعة التي تفصلهم عن منبتهم الاصلي ، هم معادن ثمينة ، واحجار كريمة (( لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام الصلاة وايتاء الزكاة ، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار )) .
ففي اميركا ، تلك الارض التي يفصلها عن العراق بلدان ومحيطات ، يعيش العراقيون ايام الشهر الكريم ، بكل ما تحمله من نفحات ايمانية ، يمارسون تقاليدهم وطقوسهم الرمضانية ، كما لو انهم بين ظهراني احبتهم واخوانهم في الدين والمعتقد ، فموائد الرحمن عامرة بالأكلات العراقية التقليدية التي تبدأ بالتمر واللبن ، ولا تنتهي بالحلويات المطعّمة بالفستق والجوز ، تتحلّق حولها عوائل اكرمت بعضها بعضا ، وتناوبت على اقامتها في منازلها ، او في مساجد الله التي تكتظ بالمصلّين كل يوم ، حتى يظطر البعض الى الصلاة خارج قاعة المسجد . ويحرص الكثيرون على عدم تفويت فرصة الاستزادة من ثراء علم رجال وهبوا انفسهم لخدمة الاسلام والمسلمين عبر محاضرات تثقّف في الدين وتذكّر من نسي بالتزاماته تجاه ربه . وفي مشيغان وهي الولاية التي يعيش فيها اكبر عدد من العراقيين نجد ان التقاليد العراقية والاسلامية مازالت راسخة في نفوس الناس ، وانك حين تتجول في المراكز الاسلامية المنتشرة هناك ترى ذلك التلاحم الكبير الذي يجمع المسلمين سواء كانوا عراقيين او عرب او من جنسيات اخرى ، يجمعهم التسامح والحب الاخوي الذي دعا اليه الدين الاسلامي الحنيف .
والمجمع الاسلامي الثقافي هو واحد من المراكز الاسلامية التي تدعو للفخر والاعتزاز حيث يواظب الشيخ عبد اللطيف برّي على تقديم المحاضرات الدينية التي تلقى قبولا وترحيبا من الجالية العراقية هناك ، اضافة الى الجاليات العربية الاخرى من لبنانيين وتونسيين ومصريين وآخرين من دول عربية شتى .
والصورة الاكثر اشراقا انك ترى بين هؤلاء مجموعة من الاطفال برفقة آبائهم وهم يجلسون لينهلوا من نبع الاسلام وقيمه النبيلة ، على الرغم من ان بعض هؤلاء كانوا قد ولدوا خارج وطنهم ، حرصا من عوائلهم على ان يبقى الابناء قريبين من لغتهم ودينهم وتقاليدهم وقيمهم الروحية .
والصورة لا تختلف حين تصل الى واشنطن العاصمة التي تتوزع على ارضها المراكز الاسلامية والمدارس التي تعلّم اللغة العربية ، وحتى وان اتجهت الى اقصى غرب الولايات المتحدة الاميركية ، وبالذات في اريزونا وكالفورنيا فان نفحات رمضان المباركة تجدها جليّة في وجوه العراقيين ، اللذين لم يدّخروا جهدا في توفير الاجواء الايمانية لعوائلهم والسعي لاستنساخ كل مايمت بصلة لاجواء رمضان في وطنهم العراق .
نعم هذه هي الصورة التي نراها تتكرر كل يوم من ايام الشهر الفضيل بين العراقيين هنا ، وهي صورة نعتقد جازمين ، نها تتطابق مع صور اخرى في اي ارض ينزلون فيها . وكلما بعد هؤلاء ، يزداد تشبثهم بارثهم وتقاليدهم ، وهم يعلّمون ابنائهم كل يوم ان الزمن مهما طال ، فلا بد من العودة الى الاصل ، واصل الاشياء عند العراقيين ، ان لا بديل مهما كان عن ارضهم ، واهلهم وناسهم الطيبين . |