مغادرة كل شيء في لحظة واحدة أمر في غاية الصعوبة، ولا يمكن تخيله, فكيف لي أن أتخيل مغادرتي لوطني, مقدساتي, أمي, ابني, زوجتي, إخواني, أصدقائي, قصائدي, مكان عملي, أحلامي, أمنياتي وأعدائي - حتى أعدائي - كيف لي أن أغادرهم دفعة واحدة وفي لحظة واحدة..!
التفكير في هذا الأمر يجعلني اقترب من الجنون ويصيبني بالدوار.. الموت وحده هو من سيجعلنا ندرك معنى المغادرة, فهو نقطة نهاية لكل شيء, يأخذنا على متن رحلته دون أن نقطع تذاكر لها – مجاني جدا -, يأخذنا دون عودة, لذا من الجميل أن نكون أكثر شجاعة ونجعل من الموت نقطة بداية, نقطة انطلاق نحو الضوء, ونتخذه سلما للخلود والبقاء, لكن كيف..؟
الكيفيات كثيرة وإحداها الموت دون الحق, فمن يموت دون حقه ولو بزقاق صغير فأن دمه يكون نبراسا يُستدل به ويعطي الآخرين شرعية وجودهم على الأرض.. لماذا لا نكون أكثر شمولية ونقول: إن التضحية بمفهومها العام هي طريق خلود, التضحية بكل أصنافها وكل مستوياتها وكل أشكالها شيء عظيم.
عندما أقرأ سير بعض المضحين اشعر بفخر كبير لمجرد قراءتها – يا الله.. بمَ يشعرون هم؟-, نحن العراقيين أنعم اللهُ علينا بفرص كثيرة، لنكون من المضحين الخالدين, وآخر فرصة هي فتوى الوجوب الكفائي التي أطلقتها المرجعية الدينية العليا للدفاع عن الأرض والمقدسات.
ولا بد أنكم سمعتم الكثير من التضحيات بعد الفتوى، فبعض العوائل قدمت ثلاثة أو أربعة من أولادها شهداء, وهناك من أصيب أكثر من مرة وعاد الى المعركة, وآخر فقد أحد أعضائه ولازال يقاتل, وغيرها الكثير, لكنني سأروي لكم تضحية عشيرة الجيسات (القيسيين), هذه العشيرة من العشائر السنية القوية في محافظة صلاح الدين, وقفت بوجه عصابات داعش الإرهابية بقوة, ورفضتها بشدة, ساندت القوات الأمنية وقوات الحشد الشعبي من خلال الاشتراك معهم بالقتال, قدمت شهداء وجرحى, كان لها نفس هذا الموقف من تنظيم القاعدة الإرهابي إبان تأسيسه عام 2004م, وقد تعرض الكثير من أبناء هذه العشيرة الأصيلة للاغتيال والخطف على يد مجرمي التنظيم, ولسنوات طويلة, وتمت محاربتها من أكثر من جهة، ولكنها بقيت على موقفها الوطني، ولم تتنازل عنه, بل ازدادت ثباتا ووطنية, ولعل سائل يسأل ويقول: الكثير من العشائر لها نفس الموقف, لماذا (الجيسات)؟
نعم.. ولكن هذه العشيرة قدمت 1890 شهيدا خلال ثلاث عشرة سنة فقط - من 2004 الى 2007 -, فهنيئا لهم وهنيئا لنا بهم, تضحيتهم كبيرة ويحق للجميع أن يفتخر بها.. وختاماً أقول: (من يستطيع النيل منا ولدينا هكذا عشائر؟).
|