• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الهوية العراقية تحت الضغط: التهجين الديموغرافي يقرع ناقوس الخطر .
                          • الكاتب : رياض سعد .

الهوية العراقية تحت الضغط: التهجين الديموغرافي يقرع ناقوس الخطر

#مقدمة

التغير الديموغرافي والهوية الوطنية في العراق: تحليل تاريخي ونقدي

شكّلت الهوية العراقية وتطورها الديموغرافي موضوعاً لإشكاليات تاريخية متعددة، تأثرت بتدخلات خارجية وسياسات داخلية عبر مختلف العصور... ؛ و يتناول هذا التحليل التغيرات الديموغرافية التي شهدها العراق، لا سيما خلال الفترات التاريخية المختلفة، ويقيّم تأثيراتها على الهوية الوطنية والنسيج الاجتماعي، مستنداً إلى وقائع تاريخية وبيانات موضوعية.

##السياسات العثمانية والتغير الديموغرافي

خلال الحقبة العثمانية، شهد العراق تحولات ديموغرافية ملحوظة، تمثلت في توطين مجموعات مختلفة من خارج العراق، بما في ذلك التركمان والقوقازيين وغيرهم، في مناطق بغداد والشمال والغرب... ؛ اذ لم تعرف أمة من الأمم ما عرفه العراق من محاولات مسخ وتهجين وتغيير ديموغرافي متعمد... ؛  فمنذ العهد العثماني البائس ، بدأت عملية منظمة لإعادة تشكيل الهوية العراقية، وكأن قدر هذه الأرض أن تكون ساحة مفتوحة لكل غريب وطامع وهجين ... .

فالعثمانيون جلبوا السبايا والمماليك والغلمان والمرتزقة من كل حدب وصوب، وأسكنوهم في بغداد وديالى والمناطق الغربية والشمالية، حتى غصّت هذه المدن بالقبائل التركمانية والجماعات القوقازية والآسيوية والشخصيات الاوربية ... ؛ اذ تحولت بغداد، في أواخر ذلك العهد الاسود ، إلى ملاذ لشذاذ الآفاق، ومأوى لكل مطلوب للقانون، تحت حماية الدولة العثمانية.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد ؛ بل أُحِل المرتزقة الأكراد مكان سكان شمال العراق الأصليين من المسيحيين وغيرهم، وجُلبت عوائل وشخصيات سنية من نجد و ما جاورها وأسكنت في وسط وجنوب العراق لأهداف طائفية واضحة.

وهذه الممارسات كانت جزءاً من سياسات إدارية أوسع لتعزيز النفوذ العثماني، شبيهة بما حدث في ولايات عثمانية أخرى مثل اليمن والشام ومصر ، حيث استُخدمت أدوات ديموغرافية لتعزيز السيطرة.

## الحقبة الاستعمارية البريطانية واستمرار التحول الديموغرافي

بعد سقوط الدولة العثمانية، استمرت سياسات التغيير الديموغرافي تحت اشراف الانتداب البريطاني، حيث جرى توطين مجموعات جديدة في العراق، ومنح الجنسية لبعض القادمين من الخارج، بما في ذلك من مناطق مثل الحجاز والهند وغيرهما ... ؛ وبعد مجيء الانكليز الخبثاء ، ظن العراقيون أن الاحتلال البريطاني سيعيد التوازن، إلا أن البريطانيين عمّقوا الأزمة بدل معالجتها ؛ بغضا بالشيعة ؛  فقد جلبوا الغرباء من الحجاز والهند وأسكنوا نصارى تركيا في شمال العراق، ومنحوا الجنسية العراقية للعوائل والشخصيات الأجنبية التي كانت تعيش في ظل الحكم العثماني، بغض النظر عن أصولها الاجنبية وجذورها غير العراقية ... ؛ فكانت النتيجة أكثر ظلامًا وتهجينا وتغييرا منكوسا باطلا ... ؛ وهذه السياسات البريطانية الخبيثة  تركت آثاراً طويلة الأمد على التركيبة الاجتماعية، وزادت من تعقيد مسألة الهوية الوطنية العراقية، التي كانت أساساً متعددة المكونات.

## سياسات التجنيس والهجرة في العصر الحديث

ثم جاءت الحكومات الملكية ذات الجذور الغريبة والاصول غير العراقية من بقايا العثمنة ورعايا الانكليز , و الحكومات الجمهورية الهجينة لاحقًا ؛  لتكرّس هذه السياسات الطائفية والاجراءات والتغييرات الديموغرافية , و لتكمل المسار المنكوس نفسه ، حيث احتمت كل تلك الجماعات والشخصيات غير العراقية , والمهاجرة الى العراق حديثا  بالمظلّة السُنية، وادعت العروبة زيفًا وكذبا ، بل وصل الأمر بالبعض إلى التبجح بالنسب السومري والبابلي والأكدى , حتى أصبح الدخيل يعير العراقي الأصيل ؛ فقد ادعى الهجين مجهول الاصل والنسب صدام الانتساب الى حمورابي ونبوخذ نصر !

وخلال أكثر من ثمانين عامًا، ظلّت أبواب العراق مشرعة أمام الدخلاء والغرباء والاجانب ، تحت ذرائع سياسية وطائفية  وقومية مريبة، استهدفت الأغلبية العراقية وبقية المكوّنات الأصيلة... ؛  ولم تتوقف عمليات التهجين والتغيير الديموغرافي عند هذا الحد؛ فقد فتحت الحكومات العميلة المتعاقبة أبواب العراق على مصراعيها أمام شذاذ الآفاق من الدول الناطقة بالعربية والدول الإسلامية، وفضّلت الغرباء والدخلاء على العراقيين الأصلاء، حتى بات الدخيل والهجين  اليوم يفاخر بأصوله المزعومة الى قحطان وعدنان ، ويتبجح بالانتساب إلى السومريين والبابليين، فيما يعير العراقي الأصيل!

وبحلول عام 2003، كان العراق قد امتلأ بالجاليات الفلسطينية والسورية والمصرية والسودانية والصومالية وغيرها ، إضافة إلى عشرات الآلاف من المجنسين... ؛  والأسوأ من ذلك، أن بعض الحكومات الطائفية المتعاقبة تشددت في منح الجنسية العراقية لكل من ينتسب للمذهب الشيعي ، بل و سحبت الجنسية من عراقيين عاشوا مئات السنين في البلاد لا لشيء سوى انتمائهم المذهبي الشيعي ...!!

## سياسات التجنيس غير المنضبطة بعد عام 2003

بعد التغيير عام 2003، استبشر العراقيون خيرًا وظنوا أن مرحلة تنظيف البلاد من الغرباء والاجانب والدخلاء قد بدأت، لكن الصدمة كانت أكبر؛ فقد فُتحت الحدود على مصراعيها لكل من هبّ ودبّ...؛ واستمرت سياسات التجنيس غير المنضبطة ؛ اذ قامت سلطات الإقليم الكردي بتجنيس أكراد تركيا وإيران وسوريا ومنحهم رواتب من الحكومة المركزية، حتى أصبحوا أكثر نفوذًا من أبناء البصرة والعمارة والناصرية... ؛ كذلك جنست بعض المحافظات السُنية سوريين وغيرهم من الغرباء والاجانب ، فيما أقدمت جهات محسوبة على الأغلبية العراقية على تجنيس إيرانيين وأفغان وباكستانيين بذريعة الدراسة الدينية أو نصرة المذهب والزيارة الأربعينية.

إضافة إلى ذلك، فُتحت أبواب البلاد أمام العمالة الأجنبية التي نافست العراقيين على أرزاقهم، وحولت العملة الصعبة إلى الخارج , بينما ينزف اقتصادنا الوطني، وجلبت معها ظواهر اجتماعية سلبية... ؛ فقد ارتفعت معدلات العمالة الأجنبية حتى باتت تهدد عاجلًا أو آجلًا بوقوع أزمة اجتماعية واقتصادية تحل فيها العمالة الوافدة محل العراقيين ابناء البلد .

منذ عام 2003، فقد العراق السيطرة على معظم أدوات السياسة السكانية، لا سيما في ملفات الهجرة والإقامة والتجنيس... ؛ اذ أصبحت قرارات القبول والتوطين والتجنيس تُدار أحيانًا خارج مؤسسات الدولة أو وفق اعتبارات حزبية وطائفية، ما أفقد الدولة قدرتها على ضبط التركيبة الديموغرافية... ؛ فالسلطات الجديدة لم تُصلح الخلل، بل زادت الطين بلة... ؛ اذ أدت هذه العوامل إلى تفاقم التحديات الديموغرافية والهوياتية، وزادت من حدة المنافسة على الموارد والفرص الاقتصادية، مما أثر سلباً على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي .

## تداعيات التغير الديموغرافي على الهوية الوطنية

العراق يواجه تهديدًا وجوديًا صامتًا : تفكك الهوية الوطنية، اختلال التوازن الاجتماعي، وضياع مفهوم المواطنة... ؛  وإذا لم تُفرض قوانين صارمة للتجنيس ولاستقبال العمالة الوافدة والجاليات واللاجئين ، مع استراتيجية شاملة لحماية الهوية وسوق العمل، فإننا أمام كارثة مدنية بطيئة ستقوّض ما تبقى من أمن واستقرار.

الأرقام خطيرة: أعداد اللاجئين، والمجنسين، والمقيمين , والعمال الاجانب والغرباء ؛ تتزايد بوتيرة سريعة , في ظل غياب سياسات وطنية عقلانية... , اذ ان قرارات التوطين والتجنيس لم تعد بيد الدولة، بل بيد صفقات حزبية وطائفية، أفقدت العراق السيطرة على تركيبته الاجتماعية... ؛ و العراق اليوم يواجه تهديدًا حقيقيًا لهويته الوطنية، وسط ضعف مؤسساته الأمنية والاجتماعية، وتآكل قدرته على حماية نسيجه السياسي والاقتصادي والثقافي.

أثرت هذه التحولات الديموغرافية المتعاقبة على تماسك الهوية الوطنية العراقية، التي تعاني أساساً من إشكاليات تاريخية مرتبطة بعدم وجود روابط موحدة قوية عبر التاريخ... ؛ وغض الطرف عن هذه التغييرات الحالية سيجعل العراق أكثر عرضة للاختراقات الأمنية والاجتماعية.

## مقارنات إقليمية ودولية

التجارب الدولية تُظهر أن سياسات الهجرة والتجنيس والعمالة الخارجية  تحتاج إلى ضوابط صارمة لحماية الهوية الوطنية والأمن القومي والاقتصادي ... ؛  والمفارقة أن العالم يذهب عكس هذا الاتجاه العراقي الفاشل ... ؛  فحتى الولايات المتحدة، التي قامت تاريخيًا على الهجرة، شددت سياسات الهجرة في عهد الرئيس ترامب، فرحّلت مئات الآلاف سنويًا , مع خطط لرفع العدد إلى مليون سنويًا. كما قلّصت برامج اللجوء والتجنيس إلى الحد الأدنى، وفرضت قيودًا على التأشيرات، حمايةً للأمن القومي وهويتها  وتقليلًا للعبء الاقتصادي.

 أما الاتحاد الأوروبي ؛ فقد أطلق برامج شراكة أمنية ومشاريع تمويل ضخمة لوقف الهجرة قبل وصولها إلى أراضيه، مثل اتفاقه مع تركيا عام 2016 لكبح تدفق اللاجئين... ؛ ودعم دول شمال أفريقيا ماليًا للحد من مغادرة المهاجرين غير الشرعيين... ؛ ورغم كل هذه الجهود، لازالت أوروبا تعاني من أزمات الهوية والتطرف بسبب عدم اندماج الكثير من اللاجئين والمجنسين والمقيمين .

وقد اتبعت الكويت سياسة "الإقامة بلا تجنيس"، وتشددت في منح جنسيتها ؛ اذ رفضت ملفات الآلاف ممن وُلدوا في الكويت لعقود بحجة عدم انحدارهم من "أصل كويتي"... ؛ ووضعت لوائح صارمة ضد الإقامات غير الشرعية، وشنت حملات ترحيل منظمة للعمالة الأجنبية... ؛ بل انها سحبت الجنسية من عوائل ومشيخات عربية معروفة ؛ والهدف: الحفاظ على التوازن الديموغرافي والهوية الوطنية كما ادعت .

وقد سارعت ايران الى طرد ملايين الافغان وغيرهم بعد الاحداث الاخيرة والمواجهة العسكرية مع الكيان ؛ والهدف : هو الحفاظ على الامن القومي من الاختراق الاجنبي .

حتى حكومة الجولاني الفاشلة بكل المقاييس ؛ ألغت  عمليات التجنيس التي تمت في عهد الاسد .

أما نحن، فما زلنا نفتح الأبواب، ونغلق العيون، وكأننا لا ندرك أننا نصنع بأيدينا قنبلة ديموغرافية موقوتة ستنفجر في وجوهنا جميعًا... ؛  فهل نتدارك الأمر قبل أن نصحو ذات يوم فنجد أننا اصبحنا اقلية ؛ فلماذا لا يتعلم العراق من هذه التجارب؟ ولماذا لا يضع الهوية الوطنية فوق كل اعتبار قبل أن نجد أنفسنا غرباء في وطننا ؟ غرباء في وطن اسمه العراق؟!

## سياسات مقترحة للحفاظ على الهوية الوطنية والسيادة العراقية

*مراجعة جميع ملفات التجنيس الصادرة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 والى هذه اللحظة ؛  وتدقيقها أمنيًا واجتماعيًا وتاريخيا ... ؛ واتخاذ الخطوات اللازمة , والتي تعيد العراق الى اهله وتحافظ على الهوية الوطنية التاريخية والعريقة .

*إيقاف أي تجنيس استثنائي غير خاضع لبرلمان أو لجنة أمنية مستقلة... ؛ بل ومنع التجنيس بصورة باتة ومطلقة ؛ لان الاوضاع الداخلية لا تساعد على تجنيس الاجانب والغرباء .

*إعادة تنظيم العمالة الأجنبية : تحديد نسب وحصص ضئيلة  للعمالة الأجنبية حسب الحاجة الاقتصادية الحقيقية والملحة فقط ... ؛ وفرض رسوم عالية على الشركات التي توظف أجانب لتشجيعها على تشغيل العراقيين... ؛ ومراقبة الإقامات ومنح التأشيرات ضمن إطار أمني مركزي مشدد .

* وضع سقف لعدد اللاجئين والمجنسين: اعتماد سياسة "السقف الديموغرافي" وفق قدرة البلد على الاستيعاب، تماماً كما تفعل دول الخليج وأوروبا وغيرها ؛ وفرض شروط اندماج ثقافي وديني وقانوني لمنح أي وضع قانوني دائم أو تجنيس مستقبلي... ؛ وان كان الافضل طرد كافة الجاليات واللاجئين من العراق ؛ لحساسية الاوضاع الداخلية في العراق .

* استراتيجية أمنية وطنية: إنشاء قاعدة بيانات وطنية موحدة تشمل كل الأجانب والغرباء الموجودين في العراق... ؛ مع اعداد دراسات تاريخية عن هجرة العوائل والشخصيات الاجنبية والغريبة الى العراق ؛ وفرض رقابة صارمة على الوافدين والزوار والسائحين من مناطق النزاع أو التي تشهد نشاطات طائفية أو إرهابية أو عنصرية ... ؛ وتسليم ملف الهجرة والتجنيس إلى جهاز مستقل يخضع لمجلس النواب، لا لمكاتب حزبية أو فصائلية او غيرهما .

##  الخاتمة

إن العراق في سباق حقيقي مع الزمن... ؛  فالإغراق المتعمد للبلاد بكتل بشرية غير مندمجة، وغير منضبطة قانونيًا أو ثقافيًا أو أمنيًا، سيحوّل البلد إلى كيان هش مفكك يفتقر إلى وضوح الهوية الوطنية ومركزية القرار السياسي ... ؛ و المطلوب اليوم ليس فقط تشديد القوانين، بل إعادة إنتاج الدولة الوطنية نفسها، عبر: اسقاط كافة عمليات التجنيس السابقة , وطرد جميع الاجانب والغرباء والدخلاء , وتسفير الجاليات الاجنبية والعربية من العراق ؛ وبناء عقد اجتماعي جديد... ؛ وصياغة سياسة سكانية رشيدة... ؛ وتعميق الوعي الجمعي  بمفهوم السيادة والهوية الوطنية ... ؛ فمن لا يحمي هويته، لا يحمي حدوده...؛ ومن لا يملك قراره السكاني، لا يملك مستقبله السياسي.

إن مستقبل الدولة العراقية مرهون اليوم بقدرتها على إعادة ضبط ملف الهجرة والهوية والتجنيس ... ؛  فبين عمالة سائبة، ولاجئين بلا تأطير، وتجنس بلا معايير، يضيع البلد... ؛  ما لم تُتخذ خطوات عاجلة نحو حماية الهوية العراقية، فإن التهديد الأكبر سيكون من الداخل... لا من الخارج.

التغير الديموغرافي في العراق هو نتيجة تراكمات تاريخية معقدة، تحتاج إلى معالجة بعقلانية وروية، بعيداً عن الخطاب العاطفي أو الطائفي. حماية الهوية الوطنية تتطلب سياسات عادلة وشفافة تحفظ حقوق العراقيين الأصليين، وتضمن في الوقت نفسه استقرار البلاد ووحدتها. إن معالجة هذا الملف بشكل جذري مسؤولية وطنية ملحة، تتطلب تعاون جميع مكونات الشعب العراقي ومؤسسات الدولة.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=207046
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 08 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 08 / 26