• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : قصة وعبرة-زيد المجنون- .
                          • الكاتب : امونة جبار الحلفي .

قصة وعبرة-زيد المجنون-

 روي أن المتوكل من خلفاء بني العباس كان كثير العداوة، شديد البغض لأهل بيت الرسول، وهو الذي أمر الحارثين بحرث قبر الحسين عليه السلام وأن يخربوا بنيانه ويحفوا آثاره وأن يجروا عليه الماء من النهر العلقمي بحيث لا تبقى له أثر ولا أحد يقف له على خبر، وتوعد الناس بالقتل لمن زار قبره، وجعل رصدا من  أجناده وأوصاهم: كل من وجدتموه يريد زيارة الحسين عليه السلام فاقتلوه، يريد بذلك إطفاء نور الله وإخفاء آثار ذرية رسول الله، فبلغ الخبر إلى رجل من أهل الخير يقال له زيد المجنون، ولكنه ذو عقل سديد، ورأي رشيد، وإنما لقب بالمجنون لأنه أفحم كل لبيب وقطع حجة كل أديب، وكان لا يعي من الجواب، ولا يمل من الخطاب فسمع بخراب بنيان قبر الحسين عليه السلام وحرث مكانه، فعظم ذلك عليه واشتد حزنه وتجدد مصابه بسيده الحسين عليه السلام وكان مسكنه يومئذ بمصر، فلما غلب عليه الوجد والغرام لحرث قبر الإمام عليه السلام خرج من مصر ماشيا هائما على وجهه شاكيا وجده إلى ربه، وبقي حزينا كئيبا حتى بلغ الكوفة، وكان البهلول يومئذ بالكوفة، فلقيه زيد المجنون وسلم عليه فرد عليه السلام، فقال له البهلول: من أين لك معرفتي فلم ترني قط؟ فقال زيد: يا هذا اعلم أن قلوب المؤمنين جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، فقال له البهلول: يا زيد ما الذي أخرجك من بلادك بغير دابة ولا مركوب؟ فقال: والله ما خرجت إلا من شدة وجدي وحزني، وقد بلغني أن هذا اللعين أمر بحرث قبر الحسين عليه السلام وخراب بنيانه وقتل زواره، فهذا الذي أخرجني من موطني ونقص عيشي وأجرى دموعي وأقل هجوعي فقال البهلول: وأنا والله كذلك فقال له: قم بنا نمضي إلى كربلا لنشاهد قبور أولاد علي المرتضى قال: فأخذ كل بيد صاحبه حتى وصلا إلى قبر الحسين عليه السلام وإذا هو على حاله لم يتغير، وقد هدموا بنيانه، وكلما أجروا عليه الماء غار، وحار واستدار بقدرة العزير الجبار، ولم يصل قطرة واحدة إلى قبر الحسين عليه السلام وكان القبر الشريف إذا جاءه الماء يرتفع أرضه بإذن الله تعالى فتعجب زيد المجنون مما شاهده وقال: انظر يا بهلول يريدون ليطفؤا نور الله بأفواهم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون قال: ولم يزل المتوكل يأمر بحرث قبر الحسين عليه السلام مدة عشرين سنة والقبر على حاله لم يتغير، ولا يعلوه قطرة من الماء، فلما نظر الحارث إلى ذلك قال: آمنت بالله وبمحمد رسول الله والله لأهربن على وجهي وأهيم في البراري ولا أحرث قبر الحسين ابن بنت رسول الله وإن لي مدة عشرين سنة أنظر آيات الله وأشاهد براهين آل بيت رسول الله ولا أتعظ ولا أعتبر، ثم إنه حل النيران وطرح الفدان (1) وأقبل يمشي نحو زيد المجنون وقال له: من أين أقبلت يا شيخ؟
قال: من مصر، فقال له: ولأي شئ جئت إلى هنا وإنه لأخشى عليك من القتل فبكى زيد وقال: والله قد بلغني حرث قبر الحسين عليه السلام فأحزنني ذلك وهيج حزني ووجدي فانكب الحارث على أقدام زيد يقبلهما وهو يقول: فداك أبي وأمي، فوالله يا شيخ من حين ما أقبلت إلي أقبلت إلي الرحمة واستنار قلبي بنور الله، وإني آمنت بالله ورسوله وإن لي مدة عشرين سنة وأنا أحرث هذه الأرض، وكلما أجريت الماء إلى قبر الحسين عليه السلام غار وحار واستدار، ولم يصل إلى قبر الحسين منه قطرة وكأني كنت في سكر وأفقت الآن ببركة قدومك إلي فبكى زيد وتمثل بهذه الأبيات:
تالله إن كانت أمية قد أتت * قتل ابن بنت نبيها مظلوما فلقد أتاه بنو أبيه بمثله * هذا لعمرك قبره مهدوما أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا * في قتله فتتبعوه رميما فبكى الحارث وقال: يا زيد قد أيقظتني من رقدتي، وأرشدتني من غفلتي وها أنا الآن ماض إلى المتوكل بسر من رأى، اعرفه بصورة الحال إن شاء أن يقتلني وإن شاء أن يتركني، فقال له زيد: وأنا أيضا أسير معك إليه وأساعدك على ذلك قال: فلما دخل الحارث إلى المتوكل وخبره بما شاهد من برهان قبر الحسين عليه السلام استشاط غيظا وازداد بغضا لأهل بيت رسول الله وأمر بقتل الحارث وأمر أن يشد في رجله حبل، ويسحب على وجهه في الأسواق، ثم يصلب في مجتمع الناس، ليكون عبرة لمن اعتبر، ولا يبقى أحد يذكر أهل البيت بخير أبدا وأما زيد المجنون فإنه ازداد حزنه واشتد عزاؤه وطال بكاؤه وصبر حتى أنزلوه من الصلب وألقوه على مزبلة هناك، فجاء إليه زيد فاحتمله إلى الدجلة وغسله وكفنه وصلى عليه ودفنه، وبقي ثلاثة أيام لا يفارق قبره، وهو يتلو كتاب الله عند، فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع صراخا عاليا، ونوحا شجيا، وبكاء عظيما، ونساء بكثرة منشرات الشعور، مشققات الجيوب، مسودات الوجوه ورجالا بكثرة يندبون بالويل والثبور، والناس كافة في اضطراب شديد، وإذا بجنازة محمولة على أعناق الرجال وقد نشرت لها الاعلام والرايات، والناس من حولها أفواجا قد انسدت الطرق من الرجال والنساء قال زيد: فظننت أن المتوكل قد مات، فتقدمت إلى رجل منهم وقلت له:
من يكون هذا الميت؟ فقال: هذه جنازة جارية المتوكل وهي جارية سوداء حبشية وكان اسمها ريحانة، وكان يحبها حبا شديدا، ثم إنهم عملوا لها شأنا عظيما ودفنوها في قبر جديد، وفرشوا فيه الورد والرياحين، والمسك والعنبر وبنوا عليها قبة عالية فلما نظر زيد إلى ذلك ازدادت أشجانه، وتصاعدت نيرانه وجعل يلطم وجهه ويمزق أطماره، ويحثي التراب على رأسه، وهو يقول: واويلاه وا أسفاه عليك يا حسين أتقتل بالطف غريبا وحيدا ظمآنا شهيدا، وتسبى نساؤك وبناتك وعيالك، وتذبح أطفالك، ولم يبك عليك أحد من الناس، وتدفن بغير غسل ولا كفن، ويحرث بعد ذلك قبرك ليطفؤا نورك وأنت ابن علي المرتضى، وابن فاطمة الزهراء، ويكون هذا الشأن العظيم لموت جارية سوداء، ولم يكن الحزن والبكاء لابن محمد المصطفى قال: ولم يزل يبكي وينوح حتى غشي عليه والناس كافة ينظرون إليه فمنهم من رق له، ومنهم من جنى عليه، فلما أفاق من غشوته أنشد يقول:
أيحرث بالطف قبر الحسين * ويعمر لعل الزمان بهم قد يعود * ويأتي بدولتهم ثانية ألا لعن الله أهل الفساد * ومن يأمن الدنية الفانية قال: إن زيدا كتب هذه الأبيات في ورقة وسلمها لبعض حجاب المتوكل قال: فلما قرأها اشتد غيظه وأمر باحضاره، فأحضر وجرى بينه وبينه من الوعظ والتوبيخ ما أغاظه حتى أمر بقتله، فلما مثل بين يديه سأله عن أبي تراب من هو؟
استحقارا له، فقال: والله إنك عارف به، وبفضله وشرفه، وحسبه، ونسبه، فوالله ما يجحد فضله إلا كل كافر مرتاب، ولا يبغضه إلا كل منافق كذاب، وشرع يعدد فضله ومناقبه حتى ذكر منها ما أغاظ المتوكل فأمر بحبسه فحبس فلما أسدل الظلام وهجع، جاء إلى المتوكل هاتف، ورفسه برجله وقال له: قم وأخرج زيدا من حبسه، وإلا أهلكك الله عاجلا، فقام هو بنفسه، وأخرج زيدا من حبسه، وخلع عليه خلعة سنية، وقال له: اطلب ما تريد قال: أريد عمارة قبر الحسين عليه السلام وأن لا يتعرض أحد لزواره فأمر له بذلك، فخرج من عنده فرحا مسرورا وجعل يدور في البلدان وهو يقول: من أراد زيارة الحسين عليه السلام فله الأمان طول الأزمان  . 
________
بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٥ - الصفحة ٤٠٣_٤٠٧




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=206987
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 08 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 08 / 25