لَم يَكُن القُرَآنُ الكَريمُ ليَترِكَ الإنسَانَ عَبَثَاً بَعدَمَا خَلَقَه, دونَ أنْ يُبيِّنَ لَه الحَقِّ, مَفهومَاً وطَريقَاً, بِمَعَالِمَه ووَسَائِلَه, وِمِنهَا مَحَلُّ البَحثِ والقَصدِ, وهي مَقولَةُ أو ثَقَافَةُ (فَتَبَيَّنُوا), والتي تَعني استبيَانَ الأشيَاءِ والأمُورِ, حَالَ التَعَاطِي مَعَهَا, والتَمييزَ لِمَا يُتَلَقّى مِن الأخبَارِ والأفكَارِ والثَقَافَاتِ, وحتى العَقَائد, والتَثبُتَ منها, في التَبَني والقَرارِ والفِعلِ, وقد كَرّرَهَا القُرآنُ الكريمُ ثَلاثَ مَرّاتٍ: مَرّةٌ في آيَةٍ, وَمَرّتان في آيَةٍ أُخرَى, لِمَزيِدِ تأكيدٍ في تَأسِيسِ مُنتَظَمِ حَرَاكِ الإنسَانِ المُؤِمِنِ, بـ(فَتَبَيَّنُوا) طِبقَ الوِجهَةِ القويمَةِ, شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا, في نَفسهِ ومُجتَمَعِه, ومَا يَتَكَفّلُ بذلك مِن تَأمينٍ لِسنخِ التَعَاطِي السَليمِ, والتَلَقي, والحُكمِ, والآثارِ, والعلاقَاتِ مع الآخرِ, وتَنقيحِ الأخذِ مِن الأفرادِ أو الجِهَاتِ, والقبولِ والاقتِفَاءِ, وتَقريراً لِلحُكمِ الإرشادي عَقلاً وغَرَضاً في ضَرورَةِ التَبيِّنِ والتّثَبتِ, والذي يَدركَه العُقَلاءُ في سلوكِهم وتَعَاملِهم, ويَأخذونَ به بِنَاءً, ودَافِعاً وخياراً, كَمَا في قَولِه تَعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)), (الحجرات: 6)، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا )), (النساء: 94).
ومّا يلفِتُ النَظَرَ في صيَاغةِ مُفرّدةِ (فَتَبَيَّنُوا) هو صَوغُها بلِسَانِ المَجموعِ وللمؤمنين, مِمَا يُحَمِّلنَا, مَسؤوليّةً شرعيّةً وعُقلائيّةً في المَوقفِ والتطبيقِ والآثارِ.. فَضلاً عن أنَّ المُتَبيَّنَ مِنه هُنَا, قد يكون في أكثره, ما يُشَكّلُ الظّاهِرَةَ البَارِزَةَ في تَأثيرِهَا الأكبَرِ, لو أُخِذَ بِه, دون التَثَبتِ والتَبيِّنِ مِنْ أوَّلِ الأمرِ, كالأخذِ بخبرِ الفَاسقِ وتَلَقيه, والعَمَلِ به: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ) دونَ التبيِّنِ بكونه ثِقَةً وما يَتبَعُ ذلك مِن ظلمٍ لحقوقِ الآخرين في أنفسِهم أو أموالِهم أو أحوالِهم أو شؤونِهم الأُخرَى: (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ), مَمَا يَعني لِسَانُ المَجموعِ صِيَاغةً وخِطَابَاً, أنّ حَرَاكَ (فَتَبَيَّنُوا), غالباً مَا يَكونُ في الإطَارِ العَامِ والمُطلَقِ, والذي يَحكُمُ في نِظَامِه نَوعَاً, الفَردَ والمُجتمَعَ مَعَاً, وبتَرَابطٍ وَثيقٍ في الأثرِ والغَايَةِ.
|