في عام 1985، أصدر المخرج الياباني هيروشي تيشيغاهارا فيلمه التأمّلي "وجوه في الزحام"، الذي يصوّر فيه مشاهد متقطّعة لحياة أشخاص يعيشون في طوكيو دون أن يتقاطعوا حقًا. لا حبكة واضحة، ولا شخصيّات متطوّرة، فقط لقطات صامتة لأفرادٍ يمرّون ببعضهم البعض كأنّهم أشباح، في عالمٍ مزدحم لكنّه فارغ في الوقت نفسه.
يُركّز الفيلم على رجلٍ خمسينيّ يعمل في أرشيف المستشفى. وجهه خالٍ من التعبير، يكرّر حركاته اليومية بدقّة مملّة. لا نعرف عنه شيئًا سوى صمته، وعيناه المتعبتان اللتان تفضحان ما لا تقوله الشفاه: وحدةٌ طويلة، وكراهيةٌ صامتة لذاته ولحياته التي تسير دون معنى.
الروتين كقناع للكراهية
هذا النوع من الشخصيات – التي لا تصرخ لكنها تنهار داخليًا – يعكس شريحة واسعة من الناس الذين يُخفون ألمهم تحت قناع الانشغال. إنّ الروتين اليوميّ ليس فقط نمطًا للعيش، بل طريقة للهروب من مواجهة النفس. الإنسان الذي يُفرط في العمل أو التنظيم الصارم غالبًا ما يحاول أن يخفي شعورًا دفينًا بالنقص أو القلق من الفشل، تمامًا كما فعل أرشيفيّ الفيلم.
ولعلّ هذا ما يتقاطع مع ما كتبه سيوران في أحد نصوصه السوداويّة حين قال: "لا أحد يكره ذاته صراحة، الكلّ يخترع طقوسًا لتأجيل اعترافه." هذا الطقس قد يكون النجاح، أو الانشغال، أو حتى السخرية الدائمة من الذات.
كراهية الذات ليست دائمًا صاخبة
المشكلة في كراهية الذات أنّها لا تكون دائمًا عنيفة أو صريحة. أحيانًا تكون هادئة، تتسرّب تدريجيًا إلى تفاصيل الحياة: تفضيل العزلة، رفض المجاملات، نقد الذات باستمرار، ورفض الاعتراف بأيّ إنجاز. قد لا يلاحظها الآخرون، لكنّها تنهش صاحبها ببطء، كما تفعل الرطوبة في جدران بيتٍ قديم.
وفي لحظةٍ ما، تصبح هذه الكراهية عادة. يعتاد الإنسان العيش في ظلال نفسه، يُقارن دائمًا، ولا يشعر أنّه "كافٍ"، حتى وهو يحقّق ما يتمناه الآخرون.
دور المجتمع في تفاقم العزلة
الأنظمة الحديثة، خاصةً في المدن الكبرى، تُعزّز هذا الشعور. المدن المكتظة لا تعني مجتمعات مترابطة. في طوكيو، أو نيويورك، أو الرياض، يمكن للمرء أن يرى آلاف الوجوه يوميًا دون أن يتبادل كلمةً واحدةً مع أحد. إنّ الفرد في هذه البيئة يشعر وكأنّه غير مرئيّ، لا أحد يلاحظ انطفاءه البطيء.
التقنية زادت من هذا الانفصال. مواقع التواصل توفّر تفاعلات لحظيّة، لكنها تفتقر للعمق. الكلّ يبتسم في الصور، لكن خلف الكاميرا، كثيرون يعانون من شعور العزلة وعدم الانتماء، الأمر الذي يُغذّي كراهية الذات عبر مقارنة النفس بصورة غير واقعيّة للآخرين.
طريق العودة يبدأ بالاعتراف
ربّما يكون الحلّ الأوّل – كما يشير سيوران – هو الاعتراف. لا يمكن تجاوز كراهية الذات قبل تسميتها. أن تعترف بأنّك متعب، أنّك لا تحبّ نفسك أحيانًا، أنّك تشعر بأنّك غير مرئيّ، هو بداية تحوّل بسيط لكنه مهم.
ليس المطلوب أن يحبّ الإنسان نفسه فورًا، بل أن يصادقها. أن يفهم أنّه ليس الوحيد، وأنّ هذا الشعور جزء من تجربة إنسانيّة أوسع، يعاني منها الملايين، كما أشارت مشاهد تيشيغاهارا بذكاء وهدوء.
نهاية مفتوحة... لكنها ممكنة
الفيلم لا يقدّم حلولًا، ولا سيوران يدّعي امتلاكها، لكنّ كليهما يطرح سؤالًا جوهريًا: ماذا نفعل بعزلتنا؟ هل نستسلم لها، أم نحاول – ولو ببطء – أن نخلق لحظات حقيقية مع أنفسنا ومع من حولنا؟
ربّما تبدأ الإجابة بخطوة صغيرة: أن تجرّب أن تنظر في المرآة دون نقد. أن تتحدّث بصراحة مع صديق. أن تقبل فكرة أنّك، حتى في هشاشتك، تستحقّ التقدير. إنّه طريق طويل، لكنّه ليس مستحيلًا.
طريق العودة يبدأ بالاعتراف
ربّما يكون الحلّ الأوّل – كما يشير سيوران – هو الاعتراف. لا يمكن تجاوز كراهية الذات قبل تسميتها. أن تعترف بأنّك متعب، أنّك لا تحبّ نفسك أحيانًا، أنّك تشعر بأنّك غير مرئيّ، هو بداية تحوّل بسيط لكنه مهم.
ولعلّ الاعتراف لا يعني الانكسار، بل المواجهة. أن تسمح لنفسك بأن تشعر، أن تتوقّف عن ارتداء أقنعة القوّة الزائفة، وأن تقول: "نعم، أنا أتألم." هذه الشفافية قد تكون مؤلمة، لكنها ضروريّة للخروج من الدائرة المغلقة.
العلاج، أو الكتابة، أو حتى التأمّل الصامت، هي وسائل تساعد الإنسان على تفكيك عقده الداخليّة. أن تكتب ما لا تجرؤ على قوله. أن تصمت لتسمع ما يقوله قلبك حقًا. أن تواجه فشلك لا لتحاكم نفسك، بل لتفهمها، وتسامحها.
من هنا، تبدأ ملامح التصالح. ليس تصالحًا مثاليًا، ولا خاليًا من الانتكاسات، لكنه بداية صادقة. ومن خلال هذه البداية، يمكن للمرء أن يعيد بناء علاقته بنفسه، شيئًا فشيئًا، بثباتٍ هشّ لكن مُلحّ.
|