تُعَدُّ ذكرى عاشوراء محطةً تاريخيةً ودينيةً محوريةً في وجدان الأمة الإسلامية، إلا أن العمق المعرفي بها يتباين بشكلٍ لافتٍ بين المجتمعات الإسلامية. ففي الوقت الذي تولي فيه بعض الدول اهتمامًا كبيرًا لهذه الذكرى وتفاصيلها، نجد أن التغييب الممنهج لهذه الحقبة التاريخية من المناهج التعليمية والمجتمع ككل، قد أثّر بشكلٍ مباشرٍ في وعي الشعوب، فكانت الأنظمة السياسية ترى في هذه الثقافة نوعًا من المبالغة أو أنها قد تؤدي إلى فتن مجتمعية، الأمر الذي أدى إلى طمس معالمها لدى فئات واسعة.
لقد شهد العراق، بعد تخلصه من قبضة النظام البعثي، تحررًا فكريًا سمح لأبنائه بممارسة حرياتهم الدينية والمعتقدية بكل أريحية، وهذا التحول لم يكن مجرد انفتاحٍ سياسي، وإنما كان بمثابة إحياءٍ لمفاهيم غابت عن وعي الأجيال، وأعاد تعريف الكثيرين بمركزية كربلاء وعاشوراء في التاريخ الإسلامي، فكانت بمثابة إشراقةٍ من الهداية بفضل الله (عز وجل).
لقد أتاحت المسيرة الحسينية، وما تبعها من حراك ثقافي، فرصةً فريدةً لإزاحة الضباب عن الحقائق التاريخية التي كانت حلقةً مفقودةً في سرديات التاريخ الإسلامي الرسمي، فقد تعرضت تلك الأحداث لتغييبٍ متعمدٍ من قبل من ادعوا ولاءهم للإسلام، فما كان يُعد في الماضي حبًا لآل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرًا مبالغًا فيه، كذلك كان الحديث عنهم جرمًا يُكفّر صاحبه، وذكر الإمام علي (عليه السلام) يُعد فتنة، وإحياء ذكرى الغدير أو عاشوراء يُوصف بأنه من أفعال المغالين.
إننا اليوم، ومع إحياء ذكرى عاشوراء، نُصادف من يُبدي جهلًا بتفاصيل هذه الأحداث، أو من يتهم الموالين بالإفراط في إحياء ذكرى قديمة أكل عليها الدهر وشرب، وإن هذا الفهم القاصر والسطحي ينم عن عقولٍ لا تزال تحمل رواسب مفاهيم خاطئة، وتُغفل حقيقة أن آل بيت النبوة (صلوات الله عليهم أجمعين) قد عانوا من ظلمٍ وجورٍ لم يأتِ من أعداء الدين فقط، بل من المسلمين أنفسهم.
إن استحضار ذكرى عاشوراء ليس محاولةً لمعاقبة أحد على ماضٍ قد مضى، وإنما هو استلهامٌ لدروسٍ خالدةٍ في الدفاع عن الحق والوقوف ضد الظلم، وستبقى كربلاء مدرسةٌ فكريةٌ تفيض بمكارم الأخلاق، تعلمنا منها العزة والكرامة وكيفية التمسك بمقدساتنا.
إن من ينظر إلى هذه الذكرى على أنها خاصةٌ بفئةٍ دون أخرى، أو يسخر منها معتبرًا إياها إحياءً لماضٍ قد بلى، يُظهر مدى تأثره بثقافةٍ تُحاول طمس حقيقة التاريخ، وتنكر القول الخالد للإمام الحسين (عليه السلام): "والله ما خرجتُ أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، لكن خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله"، فينكرون ويتغافلون عن الظلم الذي تعرض له آل بيت النبي (ص) من بني أمية ويحاولون طمس ودفن قصة كربلاء.
لكن هيهات أن يتحقق ذلك، فهذه زيارة الأربعين التي تتجدد كل عام هي خير دليل على أن محاولات طمس الحقائق باءت بالفشل، فكل عامٍ تزداد هذه الثقافة قوةً وشموخًا، وتؤكد أن صوت الحق والوحدة هو الأقوى والأبقى، متحولةً بذلك إلى رسالةٍ حيةٍ للعالم أجمع، مفادها أن النهج الحسيني سيبقى أقوى من كل محاولات الطغاة، وأن كلمة الحق لا تموت؛ لأنها متجذرة في النفوس المؤمنة، وأن تضحية الحسين (عليه السلام) هي الدرس الذي لا يُنسى في وجه الطغيان.
|