
إن أمنية كل أديب أن تعبّر تجربته عن آمال الناس وطموحاتهم، ومن هنا تتجلى تجربة الأديب عبد الكريم البيضاني في مجموعته القصصية طائر المشرق إذ يشكل الأحداث بأبجدية تستمدها من عمق الواقع،ويقرأ الخلجات النفسية والهم اليومي المعاش بأسلوب الحكاية، لكونها الأقرب إلى دلالات الواقع المعاش. وهو يرى(لابد أن تكون القصص مشكلة من الواقع الإجتماعي، ومنطلقة من الحياة اليومية بشخصيات وأحداث تشبه الحياة الحقيقية).
إن هذه المقدمة الموجزة تعطينا التصور بأن المجموعة تتسم بلغة البساطة فهي غير معقدة ولاتحمل غرائبية التماثل، وتمنحنا سمات الهوية الإنسانية والبساطة في تكوين الحكاية،وتجعلها ثرية بعلاقات غير معقدة ولها دلالات اجتماعية تسمو بالحياة،فعامل البساطة ليس معيبًا بل هو قمة الإبداع وأجمل الفن.
إن ارتكاز المبدع البيضاني على الحكاية جعله يعتمد على السرد المباشر والتركيز على المسعى المضمون ليصل أحيانًا إلى البيان الوعظي،وهو أسلوب ذكي يبعده عن التعقيد،ويتيح له تقديم القضايا الإنسانية في صورتها الطبيعية:عرض المشكلة ومحاولة علاجها ،ومن هنا تلامس قصصه الحالة الإنسانية ،وتبرز السلوكيات السلبية لا بوصفها عقدة درامية داخلية، بل كمعطى يضيء بؤر الواقع ويعمقها، مقابل حضور الشخصية الإيجابية المزدانة بالعلم والعقل، حيث يبقى المسعى القصدي هو الإرشاد والنصح.
قدم لنا البيضاني أربعين حكاية تكشف هوية الإنسان العراقي،وكل حكاية تترك في المتلقي أشياء كثيرة منها الأمل والألم، ومن واقعية التداخل النصي مع الواقع الخارجي زمانًا والمكانًا
نقرأ في حكاية(ما تفعله الكلمات)كان الزمن مساء،والمكان مجمع تجاري في بلد غربي، كوّن تركيبة بنائية ليبلور لنا الوعي بالهوية من خلال حوار خارجي،
-اسمي حسين من سوريا
ـ أنا بهناز من إيران.
ويستحضر لنا بعض جمل الوعظ كمعطى من معطيات السرد في (حكاية الفردوس في بيتي) ومضات حكمة تبلور درسًا حياتيًا بليغًا (قررت أن تتخطى التفكير السلبي وتجعله يتهشم بين أقدام الشخصية). أما في قصة(طائر المشرق) نرى تجربة البحث عن عمل لخريج من كلية الصيدلة يتعرف على فتاة المانية عن طريق الانترنت، وفعلًا يهاجر إلى ألمانيا ويتزوجها، ثم يكتشف فارق المساحة التربوية والفكرية والثقافية بين الهويتين من حيث فهم الحرية والوعي والإلتزام والدين وبعدها يوضح لنا فكرة الحكاية بالترويض والصبر والمثاقفة تجعله يتمكن من كسب زوجته لعادات الشرق والإلتزام بالدين .
تتواصل الحكايات في هذا المفهوم، أراها حكايات لواقعية أحداثها، ومباشرتها وسردها الترتيبي واحتواء لغة الكان، ولا أعتقد مثل هذا التصور يؤثر في الجهد الفني المبذول، ولا يقلل من قيمة المنجز بل حسنة المنجز أن يعمل جاهدًا ليكون قريبًا من الناس.
ففي حكاية (الجحيم)تروي مأساة عالم
اكاديمي رئيس جامعة وهو شخصية معروفة عند العراقيين تعرض إلى إعتداء من قبل مديرية الأمن العامة والحكاية معروفة، انه يستقطب منهله الفني من قصص الناس، صياغتها ليبرهن أنه ابن الواقع، وبعد مدة عاشها الأستاذ في غرف التعذيب ثبت أن الأمر كان اشتباهًا ،وهو يحمل قلم من ذهب أهداه له أينشتاين عالم الفيزياء، وبعدها قدم استقالته وغادر الوطن مثقلًا بجراح روحه، ولم يفارقه الألم الذي كابده إلى الموت . هذه الحكاية لها موضع في ضمير كل عراقي، وتكشف عن المعاناة وما كان يحدث في كواليس الحكومة ومديريات الأمن من تشويه لمعنى الإنسانية والثقافة وموت الرحمة ومحاربة المثقف لأن الحكومة تكره الوعي. أما في حكاية (اللوذعي) تقترب الى عوالم القصة القصيرة، قلم ينفصل عن رأس الكاتب ليحرر له القصة ويضع نهايته دون علم الكاتب، تحتوي نصوص(طائر المشرق) على بنية فنية تسلسل منطقي لوقوع الأحداث وتدخل في صيغ الأخبار الشفاهي ويتبنى الحكاية للدلالة على نمط سردي وأداة تعبيرية تبنت طرح الرؤية بوضوح لأثراء النص . في حكاية طابور الجياع ينقل لنا حكاية مؤثرة عن أطفال غزة عبر سؤال بليغ يدخلنا إلى عالم التأمل والتصور الأقرب في عالم المخيمات السؤال لماذا نقتل؟ . وفي حكاية(نخلة البرحي) فضيحة أم أرملة ينكر عليها زوجها العرفي إقرار منه بالزواج، لهذا تتعرض إلى إجراء غسل العار، كل نص له موضوع وعالم وهذا يعطي لنا مميزات التنوع بقراءة جميع أوجه الواقع . الحكاية عند البيضاني ترتكز على الحدث ولا على الشخصية، الا كأداة لتحقيق الحدث، تطرح الحدث دون أن تثير الانفعالات الحادة للمشاعر، بل هي مساحة للتأمل الهادئ وكشف الحقيقة وتحمل قيمًا إجتماعية ودينية ودلالات متنوعة عن الحرب والبيت والأسرة وعن مأساة سبايكر والاحلام والآمال وأهداف الحياة.
إن مجموعة طائر المشرق امتازت بالبساطة والجمال ،وتبين أن الانحياز إلى الواقع اليومي، بلغة واضحة، لا ينقص من القيمة الفنية للنصوص، بل يمنحها حضورها الأصيل وقربها من وجدان الناس.
|