زيارة الأربعين ليست مجرّد مناسبة زمنية تتكرّر كل عام، بل هي محطة روحانية عميقة تُجدّد فيها الأمة عهدها مع سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي عليه السلام، وتستحضر من خلالها ملامح التضحية والفداء، وتستقي من معين الصبر والثبات. وهي مناسبة تختزن في وجدان المؤمنين كل معاني الوفاء للمبادئ الإلهية التي ضحّى من أجلها الحسين، حتى غدت شعيرة من شعائر الله التي أمر بتعظيمها، كما قال عزّ من قائل:
"ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ".
الجذور التاريخية للأربعين ترتبط بحدثين متوازيين في التاريخ:
أولهما، وصول سبايا آل البيت عليهم السلام إلى كربلاء في العشرين من صفر سنة 61 هـ، بعد رحلة مريرة من الكوفة إلى الشام، ثم العودة إلى المدينة، وهم معزّزون بالكرامة رغم جراح الأسر. كان ذلك اليوم محطة لاستكمال الرسالة الإعلامية لثورة كربلاء، إذ اجتمع الدم الطاهر بالكلمة الهادرة التي حملتها زينب الكبرى والإمام السجاد عليهما السلام.
وثانيهما، زيارة جابر بن عبد الله الأنصاري، الصحابي الجليل، إلى قبر الحسين عليه السلام في اليوم نفسه، لتكون أول زيارة مسجّلة في التاريخ، مؤسِّسة لسنّة زيارة الأربعين، ومعلنة بداية تقليد روحي مستمر عبر القرون.
أما من حيث الدلالات العقائدية، فإن إحياء الأربعين تجسيد لامتثال حديث الإمام الصادق عليه السلام: "زيارة الأربعين من علامات المؤمن". فهي ليست مجرد زيارة، بل إعلان ولاء وتجديد عهد بالسير على نهج الحق مهما كانت التضحيات. وهي تأكيد على أن شهادة الحسين عليه السلام مستمرة، وأن المسير نحو كربلاء في الأربعين هو تجسيد عملي لفكرة أن دم الحسين ما زال حيًّا في وجدان الأمة، وأن رسالته لا تقتصر على عصرها بل تمتد لكل الأزمان.
في هذه الزيارة، يتوحّد المسلمون على اختلاف مذاهبهم وجنسياتهم، في مشهد يختصر معنى "الأمة الواحدة" تحت راية الإمام الحسين، بعيدًا عن الانقسامات الضيقة. كما أنها مناسبة لإحياء القيم النبيلة التي جسّدها الحسين، مثل الصبر، والعطاء، ونصرة المظلوم، استلهامًا من قوله عليه السلام: "إني لم أخرج أشِرًا ولا بَطِرًا... وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي".
الأربعين الحسيني ليست مجرد ذكرى حزينة، بل هي دورة تربوية ومنبر عالمي لإيصال صوت العدالة والحرية. فهي تذكّر المسلمين أن مسؤوليتهم لا تقف عند حد البكاء والحزن، بل تمتد إلى حمل راية الإصلاح ومواجهة الظلم أينما كان. ومشهد الملايين السائرين نحو كربلاء يبعث رسالة واضحة للعالم: أن القيم التي ضحّى من أجلها الحسين ما زالت حية في القلوب، وقادرة على توحيد الملايين حول مشروع الحق.
إن الأربعين الحسيني ليست يومًا على التقويم فحسب، بل هي ميثاق إيماني متجدّد بين الحسين وأتباعه، بين الدم والضمير، بين الماضي الذي صنع المجد والحاضر الذي يسعى لصيانته. وهي إعلان أن صوت الحسين باقٍ، وأن شعاره الخالد "هيهات منا الذلة" سيظل منارة للأحرار إلى قيام الساعة.
|