"كلما تقدم بنا العمر، صرنا نحيا أكثر في ذاكرتنا، لا في واقعنا."— مارسيل بروست

كلما تقدم بك العمر... لا يعود الوقت كما كان.

تتباطأ العجلة، يهدأ الركض، ويبدأ القلب في الإصغاء لصوتٍ خافت، كان طوال سنين مضت يضيع وسط صخب الحياة.

هي ليست مجرد ذكريات، بل أكوان صغيرة علقت في تفاصيل ماضٍ تلاشى، لكنه أبى أن يموت.

هي محاولات استرجاع لما ضاع، بعد سنوات طويلة تشظّت بين الانشغال، وملاحقة لقمة العيش، وتربية الأبناء، والوقوف في وجه الحياة بوجهٍ متعب لكن صامد.

 "نحن لا نكبر، نحن فقط نعود أطفالًا في أعمارٍ كبيرة، نحمل الحنين بدل اللعب."— أنسي الحاج

توقٌ خفيٌّ، لا يُقال، يدفعني لأن أعود إلى دروب الطفولة، إلى أزقة اليفاعة، إلى الأزمنة التي اختبأت فيها ملامح الأماكن ووجوه من غادروا...

وحين أستمع إلى أغنية قديمة، أو أُبصر لقطة من مسلسلٍ عتيق، تخنقني العبرة، ويضيق صدري بصمتٍ .

أمشي في دهاليز الذاكرة، أبحث عن وجوهٍ رحلت، وعن أماكن كانت تمتلئ بصوتي، وضحكتي، وصدى خطاي.

أستعيد رائحة الخبز في الصباح، صوت الراديو وهو يهمس بأغنيات فيروزية، وجدران الطابوق المُندى برائحة المطر التي خبّأت أسراري الصغيرة.

 "قد يشيخ الجسد، لكن الذاكرة تبقى شابة... تركض بنا إلى الأمس كما لو كان اليوم."

وأشعر في لحظة صفاء، أن العمر الحقيقي ليس ما نعيشه، بل ما نتذكّره.

أن السنوات التي انقضت في اللهاث خلف الرزق، كانت مجرد عبور...

أما الحياة، فهي تلك اللحظات التي اختبأت في زوايا القلب، ورفضت أن تُنسى.

بغداد...

ما زلتِ تشعلين قلبي كلما جاء طيفك في صورة، أو صدى، أو كلمة.

كنتِ أكثر من مدينة، كنتِ حضنًا وأمًّا، وطفولة، وأغنيةً نظيفة تعيدني إلى زمنٍ لم يُدنّسه الضجيج.

فيك قال الجواهري:

إليكِ تحنُّ النفوسُ الطروبُ، وتشتاقُ أرواحُ كلِّ الغُرابْ

والآن، بعد هذا العمر، أحتاج أن أعود، ولو في خيالي، لأقول لمن غادروا:

"لم أنسَكم، ما زلتم هنا... حيث بقي منّي ما بقي منكم."

الحنين لا يرحم، لطالما أتى كرسائل من زمنٍ مضى، يعيدني صغيراَ يبحث عن ملاذ ضاع في زحمة السنين.