من أصعب اللحظات على المرء أن يفقد عزيراً، وأصعبها مرارة فقدانه لفلذة كبده وبضعة منه، ومن اصعب اللحظات على قلب الكاتب أو المؤلف أن يفقد كتاباً خطه بيمينه وسهر الليالي على تحبيره، بخاصة إذا كان الكتاب بخط اليد قبل أن ينضد في حاسوب، فتلك مصيبة لا تعدلها مصيبة الا فقد الولد.
في الخامس من تشرين الأول أكتوبر عام 2014م قمت بزيارة للفقيد المؤرخ العراقي الأديب سعيد هادي الصفار الحائري (1931- 2022م) في مقر إقامته في مدينة القنيطرة بالمغرب، وألزمني في عنقي وصية ترجاني أن أحققها له وهو متابعة ميدانية لمؤلفاته المخطوطة التي تركها مع مكتبة كبيرة في بغداد تبرع بها إلى مؤسسة القليل خير من الحرمان الخيرية في كربلاء المقدسة التي يتولى إدارتها الحاج أزهر الركابي، حيث تناهى إلى سمعه أن المكتبة بسبب الظروف الأمنية في العراق تعرضت إلى التلف بسبب الرطوبة وحشرة الأرضة التي تعتاش على الخشب والورق، ورغب في أن يتأكد من ذلك وعهد ذلك إلي فوعدته خيراً.
ومضت الأشهر وتحققت أمنية المؤرخ الفقيد، فقد قمت بزيارة للمؤسسة في منطقة الفريحة شرق كربلاء المقدسة في التاسع من كانون الثاني يناير 2015م ووقفت على المكتبة والمخطوطات، ولم أتحصل منها إلا على مخطوطتين من مجموع اكثر من عشر مخطوطات عن تاريخ كربلاء وعشائرها كان قد أصابها التلف التام إلى جانب نحو 250 كتاباً تم وقفها للمطالعة العامة هو ما تبقى من مكتبته التي كانت في يوم من الأيام عامرة لولا سياسة نظام بغداد البائد التي كانت تتصيد أصحاب القلم والرأي وتحاسب على الكتاب وتعدم مقتني الكتاب بتهمة الرجعية الدينية إن كان الكتاب ذا صبغة دينية، ومناوئة النظام ومعاداة الحزب الحاكم إن كان سياسياً، ولا ضير إن كان الكتاب فنياً أو رواية إباحية.
تألمت كثيراً لما حلَّ بالمكتبة مع علمي ودرايتي بأنها حال الكثير من مكتبات أصحاب القلم الذين تركوها هرباً من القمع السياسي، وصعب عليَّ إخباره بما رأيت فهو شديد التعلق بما كتب وأرَّخ عن مدينته المقدسة، ولكن ما في اليد من حيلة والأمانة العلمية تقتضي الإفصاح رغم قرح القلب وعظم الجراح، فأخبرته بما رأيت وشكرت الله أنني عثرت على مخطوطتين فقط مما تبقى، فما كان جوابه سوى قوله "حسبي الله"، وحتى يرى الفقيد بقايا مخطوطاته تتنفس الصعداء وهو في سكناه الأخير في مدينة فالدفايلر (Waldweiler) بألمانيا عند ولده الأستاذ وسام الصفار قبل رحيله عن عالم الدنيا ونقل جثمانه إلى مسقط رأسه كربلاء المقدسة ودفنه في المقبرة القديمة، عمدت بالتنسيق مع دائرة المعارف الحسينية بلندن وراعيها سماحة المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي ومع نجل الفقيد، بتحرير إحدى المخطوطات التي قدمت بها إلى لندن والمعنونة "مشاهد رأس الحسين" وقدمت لها وعلقت عليها وظهرت والحمد لله في كتاب مطبوع عام 2022م في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 192 صفة من القطع الوزيري.
في الواقع أرى أن الفقيد الصفار رغم الخسارة الكبيرة لما حررته أنامله في حياته، هو محظوظ بقياس آخرين فقدوا كل مخطوطاتهم، فالظروف السياسية والأمنية وتقلبات الجو وتدخل حشرة الأرضة كانت سبباً في الضياع، لأن البعض من الأعلام فقدوا مخطوطاتهم على يد أولادهم وورثتهم عندما فرطوا بها تضييعاً أو بيعاً بأبخس الأسعار وزهيدها، وبعضهم تحت مدعى الحفاظ على تركة الوالد حجر المخطوطات على أصحاب التحقيق فغدت مخطوطات والده ومؤلفاته أو ما ورثه بحساب العدم.
وفي مقابل أصحاب العدم، نجد من يسعى ليس فقط إلى إحياء ما تركه والده من تركة علمية ومعرفية بل يتعدى الإحياء إلى إحياء تركة الأجداد، وهو ما فعله المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي عندما سعى إلى إحياء مخطوطات ومؤلفات أجداده ووثقها في ثلاثة أجزاء تحت عنوان "فهرسة المحررات في شرح المؤلفات"، صدر الجزء الأول منها حديثاً (2025م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 400 صفحة من القطع الوزيري.
نسوغ معطاءة
لأن العنوان الأصلي عام فإن المؤلف صاحبه بعنوان تعريفي هو "تحفة النبوغ في نتاج النسوغ" وزدت عليه عند المراجعة والتعليق بعض الكلمات حتى ينزاح عن سماء الكتاب غيمته فاطلقت عليه "تحفة نبوغ الكرباسي في نتاج نسوغ الرواسي" دلالة على النماء والعطاء واستمراريته ما بين الجد والحفيد، فالنسغ بالنسبة للشجر كالدم بالنسبة إلى الإنسان، فالإنسان ينمو ويحيى بالدماء التي تجري في عروقه، والأشجار تنمو بالنسغ أو السائل الذي يجري عبر الساق من الجذر الى الورق.
وما جاء به الكرباسي في فهرسة المحررات هو تعبير عن حركة العطاء المعرفي والعلمي من الأجداد إلى الأحفاد عبر الآباء، مثلما هي حركة النسغ في الساق وحركة الدم في الشريان، وبتعبير الأديب اللبناني الأستاذ عبد الحسن دهيني في مقدمة الناشر: (العلم امتداد، هو حبل متين منعقد بوتد الماضي ووتد الحاضر، أو هو جذر راسخ عبر الزمن، يغذِّي الساق بالنسغ الذي يسري بالعروق حتى يصل إلى الأوراق التي تنمو وتزهر، فالقطع ما بين الجذر والساق يُميت الأوراق فتتساقط وتذروها الريح)، وحتى لا تتساقط الأوراق وتصبح طعمة للريح تتقاذفها هنا وهناك بعيداً عن شجرتها الأصل تولى المحقق الكرباسي توثيق مؤلفات أوراق الشجرة الكرباسية المالكية من خلال مؤلفاتهم ابتداءً من الجد الخامس العلامة الشيخ محمد جعفر بن محمد طاهر الكرباسي (1080- 1175هــ = 1669- 1761م) صاحب المقام والمرقد المزار في مدينة يزد بإيران حتى والده الفقيه آية الشيخ محمد بن أبو تراب علي الكرباسي (1324- 1399هــ = 1906- 1979م) المولود في النجف الأشرف بالعراق والمدفون بأرض قم المقدسة في إيران.
فالشجرة الكرباسية التي تعود بجذورها النسبية إلى بطل الإسلام الشهيد بأرص الكنانة مصر مالك بن الحارث الأشتر النخعي المذحجي (25 ق.هــ- 39هــ)، إنما تغذت من هذا النسغ الحي، والعلماء الواعون كما يؤكد الناشر: (يتغذون من نسغ من سبقهم، ليغذوا بنسغهم من يليهم، كما النسغ المتدفق من الجذر، فكل يحصِّل العلمَ ويمنحه لمن يطلب تحصيله، فيحيون بما أعطوهم العلم ويحيي الآخذون منهم بما حصّلوه من علمهم وفكرهم وفقههم، فكما يبقى الجذر حيَّا بما يهبه من نسغ للساق والأوراق، يبقى الساق والأوراق على قيد الحياة بما يمنحه لهم النسغ المتدفق من الجذر من غذاء).
منهج الفهرسة
عمد المؤلف إلى إخراج الفهرسة من رتابتها، عبر عدد من الخطوات ذات القيمة العلمية والأدبية:
أولا: عهد بتقديم الكتاب في جزئه الأول إلى أحد الأحفاد من آل الكرباسي وهو العلامة الشيخ محمد علي بن محمد حسين الكرباسي المولود في مدينة عبادان جنوب إيران سنة 1946م والمقيم اليوم في مدينة قم المقدسة الذي وجد أن: (من نعم الله على عبده المؤمن العالم العامل، أن يقيِّظ له من عباده مَن يذكره في المحافل خيراً وهو يتنفس، وإذا حانت منيته وانقطع نفسه لم يزل يُذكر خيراً في المحافل وتحبَّر فيه الأوراق نثراً ونظماً، وإذا جاء الذكر الطيب من نسل المذكور خيراً عندها تتجلى أنوار المثل المشهور: خير خلف لخير سلف، وهذا ما رأيناه من الأثر الطيب الذي تركه لنا سماحة آية الله الشيخ محمد بن أبي تراب علي الكرباسي عندما ألَّف كتاب "آل الكرباسي" .. وعلى خطى الأب قدَّس الله سرَّه مضى الإبن البار المحقق العيلم آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي عندما قام بتعريب كتاب "خاندان كرباسي" وصدر تحت عنوان "آل الكرباسي").
بالطبع لم يكن ما قام به المؤلف بالعمل اليسير لتتبع مؤلفات الأجداد تعود إلى أكثر من ثلاثة قرون، وهو الأمر الذي يؤكده الشيخ محمد علي الكرباسي في تقديمه مضيفاً: (لقد وقفت بنفسي على الجهد اللامتناهي الذي بذله المؤلف في استحصال مؤلفات الأجداد من مظانها المتوزعة في عدد من المكتبات الشخصية والعامة في مدن إيران والعراق، وبيان للقراء ما في متونها من نصوص باللغتين العربية والفارسية).
ثانيا: إن المؤلف سار في "فهرسة المحررات" على خطى من سبقه في تبويب المؤلفات وتوثيقها، ولكن القلة القليلة من يعمد إلى توثيق مؤلفات أجداده، فالسمة السائدة أن يقوم المؤلف بتوثيق مؤلفات الأعلام الآخرين ضمن منهج اختطه لنفسه على شكل معجم للمؤلفات، أو توثيق مؤلفاته، وبتعبير المؤلف تحت عنوان "الشروق": (إنَّ عدداً من الأعلام كانوا يهتمون بمؤلفاتهم بذكرها أولاً، ووصفها ثانياً، وبيان تفاصيل عنها ثالثاً، وهذا ما كان بحد ذاته مشروعاً حضارياً يخفف عن المحقق القيل والقال الذي قد يقع بين المحققين، وهناك من الأعلام مَن قد تكفلوا بالقيام بهذه الفهرسة عن الآخرين إنْ بشكل منفرد وعبر عَلَمٍ من الأعلام أو على شكل معجم للمؤلفات أو المصنفات)، وفي هذا الكتاب فهرسة لمؤلفات الأجداد مع بيان هوية كل كتاب ومشخصاته.
ثالثا: إضافة إلى توثيق مؤلفات الجد الخامس في هذه الجزء من الفهرسة فإن الجزأين الثاني والثالث يتابع فيه المؤلف مؤلفات الجد الرابع الشيخ محمد حسن بن محمد جعفر الكرباسي، والجد الثالث الشيخ محمد إبراهيم بن محمد حسن الكرباسي، والجد الثاني الشيخ محمد جعفر بن محمد إبراهيم الكرباسي، والجد الأول الشيخ أبو تراب علي بن محمد جعفر الكرباسي، ثم توثيق مؤلفات والده.
رابعاً: نحا المؤلف قبل التعريف بالكتاب إلى بيان سيرة الجد وترجمته، مع القيام بزيارة ميدانية لمرقده وتوثيق الحدث بالصورة، وضم تعريف الكتاب البنود التالية: إسم الكتاب، الإسم بالانكليزي، الحجم، الجزء، اللغة، عدد الصفحات، تاريخ التأليف، مكان التأليف، تاريخ الطبع، الناشر، اللون (نثراً أم نظماً)، الموضوع، والمضمون.
خامساً: ألحق بهوية كل كتاب تخميسة أو مسمطة خماسية من نظمه مع قصيدة تقريظية لأحد الشعراء المعاصرين.
سادساً: ختم كل كتاب من الكتب العشرين بصورة من مقدمة المخطوطة وخاتمتها، وترجمة بعض فصول الكتب المحررة باللغة الفارسية، إلى جانب نشر بعص الفصول باللغة العربية زيادة في الفائدة
مسمطات وتقريظات
ولأن الجد الخامس ترك عشرين كتاباً في علوم مختلفة، فإن عدد المسمطات كانت عشرين بإضافة أخرى كمقدمة وثانية مكررة، إلى جانب (21) قصيدة تقريظية لثلة من الشعراء من بلدان مختلفة بإضافة واحدة كتقريظ على عموم كتاب "فهرسة المحررات" للشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز شبين بعنوان: "النبوغ في نتاج النسوغ"، قال في مطلعها من بحر الرجز:
التحفةُ الأنوارُ في النبوغ *** والأصلُ قد طالَ من النسوغ
محرراتُ الفكرِ تستبينُ *** يخطُّها من الصَّفا اليقينُ
وقال في خاتمتها:
مِن أشترٍ كرباسُ قد تناسَلوا *** مَعْ خصمهمْ إذ نُصِروا تباهلوا
قد حفظوا واستُحفظوا بين البرى *** تقدَّموا ولم يسيروا القهقرى
وجاءت عناوين التقريظات ومؤلفات الجد الخامس على النحو التالي: (1) على الهامات إكليل للشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز شبين مقرظاً كتاب "إكليل المنهج في تحقيق المطلب" (2) سديد الرأي للشاعر السعودي الأستاذ علي مهدي المادح وكتاب "أيادي سَبَا" (3) علم الهداية للشاعر العراقي السيد مرتضى محسن السندي وكتاب "التباشير" (4) الأمل الكبير للشاعر السعودي الأستاذ عقيل ناجي المسكين وكتاب "تحصيل العِلم في آداب المتعلِّمين" (5) مدارك المدارك للشاعر العراقي السيد غياث جواد آل طعمة وكتاب "توضيح طهارة المدارك" (6) لآلئ القمر للشاعر العراقي الأستاذ رحيم شاهر الربيعي وكتاب "حاشية تهذيب الأحكام" (7) شيخُ العلى للشاعر العراقي الأديب علي حسين الشاهر وكتاب "حاشية الكفاية" (8) أدلةٌ مثل الشمس للشاعر العراقي الأستاذ حسين محسن البزاز الموسوي وكتاب "حُرمة الغناء" (9) ماء الحياة للشاعر العراقي الأستاذ نزار محسن الحداد المسعودي وكتاب "حقيقة المني والمذي والوذي والودي" (10) شواهد كرباسية للشاعر رحيم الشاهر وكتاب "الخمسة الضرورية" (11) طيبُ الأرومة للشاعر اللبناني عبد الحسن راشد دهيني وكتاب "الرضاع المحرِّم" (12) سِفْرٌ جامعٌ للشاعر الكويتي الأستاذ محمود كرم وكتاب "شرح الكتب الأربعة" (13) مكللٌ بفخار للشاعر العراقي الدكتور سلمان هادي آل طعمة وكتاب "فوائد الأخبار للأصدقاء والأخيار" (14) قطبٌ ومُجدِّد للشاعر العراقي رضا كاظم الخفاجي وكتاب "قاعدة الجمع بين الأخبار" (15) لَوذعيٌ حاذق للشاعر العراقي ناصر حسين النجفي وكتاب "گوهر مراد"، (16) سيرة مختصرة للشاعر رضا الخفاجي وكتاب "مختصر سير السلف"، وتقريظ آخر على الكتاب نفسه باللغة التركمانية بعنوان "أهل العلم أحياء" للشاعر العراقي فاضل عباس البياتي (17) أصناف المسائل للشاعر السعودي الملا علي مهدي المطاوعة وكتاب "مسائل الرضاع" (18) أهوال المعاد للشاعر العراقي الأستاذ مهدي هلال الطفيلي الكربلائي وكتاب "المعادية"، (19) طيِّبُ الأنفاس للشاعر الإيراني الشيخ سلطان علي نوحه خوان الصابري وكتاب "المواعظ والأخلاق"، وأخيراً (20) عيلمٌ علاّمة للشاعر العراقي الحاج محمد علي حسين الحلاق الحائري مقرظاً كتاب "نوادر الأخبار".
في الواقع وقفت على الكتاب وعلى على ما بذله المؤلف من جهد جهيد في تتبع المؤلفات وتسقُّط أخبارها في البلدان، وهو كما يصرِّح الشيخ محمد علي الكرباسي في مقدمته: إن الكتاب الذي بين أيدينا هو بمثابة مصباح مضي من جملة مصابيح ثريا التأليفات الكرباسية التي رفدت وترفد المكتبة الإسلامية منذ قرون متمادية.
|