يقول الإمامُ علي (ع)، في خطبةٍ له بعد انصرافه من صفين: ((...وأَشْهَدُ أَن مُحَمداً عَبدُهُ ورَسُولُهُ أَرسَلَهُ بِالدينِ المَشهُورِ والعَلَمِ المَأْثُورِ والكِتَابِ المَسطُورِ والنورِ السَّاطِعِ والضِّيَاءِ اللامِعِ والأَمرِ الصَّادِعِ إِزَاحَةً لِلشبُهَاتِ واحتِجَاجاً بِالبَيِّنَاتِ وتَحذِيراً بِالآيَاتِ وتَخوِيفاً بِالمَثُلاتِ والناسُ فِي فِتَنٍ انجَذَمَ فِيهَا حَبلُ الدينِ وتَزَعزَعَتْ سَوَارِي اليَقِينِ واختَلَفَ النجرُ وتَشَتّتَ الأمرُ وضَاقَ الْمَخرَجُ وعَمِيَ المَصدَرُ ....).
حيث اشتملت الخطبة على جملةٍ من الاستعارات والمجازات والتشبيهات والكنايات التي رسمت صورةً أدبية كاشفة للواقع الذي تتحدَّث عنه، فقد صرّح الشريفُ الرضي: أنّ الخطبة ألقيت من قبل الإمام (ع) بعد منصرفه بصفين، وتآمر المنافقين والمخالفين عليه، واستسلامهم للدعايات السامّة والإلقاءات الشيطانية التي كان يمارسُها ولاة الشام، لإرجاع الأُمة إلى عصرها الجاهلي، ومراحل انحطاطها الإنساني، معرجاً على ذكر نبي الإسلام الأعظم محمد المصطفى (ص)، وشريعته السمحاء التي أنقذ بها الأمة من غيبوبتها الإنسانية، مشيداً بذكر أهل بيته (ع) حملةَ مشعل هذه الرسالة، والقائمين بأعباء تبليغها قولاً وعملاً، فخرجت الصورة العامة مُظهرةً لصورتين متقابلتين، صورة الله/ الشيطان، الهدى/ العمى، الإيمان/ الكفر، اليقين/ الشك، وبيان حالة الرجوع القهقري عما جاء به القرآن، وحثَّ عليه نبيُّ الإسلام (ص).
ورغم انصراف الإمام (ع) عن صفين، ولم يحقق مقصده لتخاذل جيشه وتآمرهم مع عدوِّه، إلا أنّ النصَّ جاء هادئاً ساكناً مفعماً بروح اليقين، ونفحات الإيمان العميق، والتسليم لأمر الله والرضا بقضائه، حاكياً عظمة تلك الروح الملازمة للحق، والتي قال (ع) عنها: ما شككت في الحقِّ منذُ أريتهُ، وقوله: (وإِنِّي لَعَلَى الطرِيقِ الوَاضِحِ أَلقُطُهُ لَقطاً، ما لَبستُ ولا لبِّس عليَّ)، ومظاهر الرضا والتسليم تبدو جلية في ألفاظ الخطبة في قوله: ((اسْتِتْمَاماً لِنِعمَتِهِ واستِسلاماً لِعِزَّتِهِ))، وقوله: ((وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً مُمْتَحَناً إِخلاصُهَا مُعتَقَداً مُصَاصُهَا نَتَمَسَّكُ بِهَا أَبَداً مَا أَبْقَانَا ونَدَّخِرُهَا لأَهَاوِيلِ مَا يَلقانَا...))، وتأتي التوازيات الصوتية (بالسجع المتوازي) معتدلاً متقطعاً في سياق التعليل ((إزاحةً للشبهات، واحتجاجاً بالبينات، وتحذيراً بالآيات، وتخويفاً بالمثلات))، وإنّ سياق هذه الفواصل التعليلية سياقٌ خاضع للترتيب المنطقي والعقلي (الفطري) لا يستقيم تقديم واحدةٍ من الفواصل على أختها، مما يضفي عليها طابعاً خاصاً يخرجها من مسلك التكلف والإقحام، فإزاحة شبهات الباطل عن قلوب الناس من أهمّ مقاصد الشريعة، وهذه الإزاحة لا تقوم إلا بالاحتجاج بالحجج الواضحة، والخطابات الواصلة إلى أقصى الأذهان، فإذا تمّتِ الحجّة والاقتناع جرى التحذير بالآيات على العصاة والجناة.
ويشرع الإمامُ (ع) في صفة أهل البيت (ع) فتأتي الدلالة الاستعارية بالسجع المتوازي، عميقة معبرة حاكية لتمام الغرض، فالاستعارات كُلُّها مكانية (حاكية عن المكان)، [الموضع، الالتجاء، العَيبة، الكهف، الجبال]، كما أنّها جاءت لتعبِّر عن الفضاء والسعة والإحاطة، لتأكيد مقام أهل البيت (ع) الحقيقي في الأمة، ودورهم في إحيائها، وإنقاذها من براثن الواقع الذي رسم صورته آنفاً، فموضع السر، إشارة إلى ((استعداد نفوسهم لأسرار الله وحكمته، إذ الموضع الحقيقي للشيء هو ما قَبِلَهُ واستعدَّ له، والملجأ لأمر الله تعالى إشارة إلى الرجوع إليهم، في بيان أوامر الله وامتثال تعاليمهم، لأنهم الناصرون له والقائمون بأمور الله، والذابّون عن دين الله، وبهم يقوم سلطانه، وفي استعارة الكهف (على نحو الجمع) إشارة إلى السعة والإحاطة والشمول الذي يشمل دقائق الكتب الإلهية، والإشارة اللطيفة أنّ الكهف يُلجأ إليه ليضم الملتجِئ ويحفظه، فالملتجئ محتاجٌ إلى الملتَجَأ إليه مفتقرٌ له، وإلا أصابه الضرر ووقع عليه ما يحذر، وهكذا أهل البيت (ع)، فهم حفظة الكتب وحملتها، ولولاهم لضاعت وحُرِّفت وبيعت بالثمن البخس، ومثلُها استعارةُ الجبال لهم، لخصائصها المهمة.
ففضلاً عن عظمتها وشموخها وارتفاعها الشاهق الذي لا يبلغه أيُّ أحدٍ، فإنها حافظةٌ لِميَدان الأرض من الضغوط المسلطة عليها من باطنها وظاهرها: ﴿وَأَلقَى فِي الأَرضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُم تَهتَدُونَ﴾، فكذلك أهل البيت (ع) هم حفظة لميدان الدين، وارتعاد فرائصه بسبب الفتن والشبهات وإلقاءات الشياطين.
فالطابع العام للصور هو التناسب والانسجام وفق فواصل متوازية متقطعة، تمتاز بالانسيابية ووضوح الصورة، وهذا طابع عامٌ في خطاباته (ع) أنّ جميع الصور في خطب الإمام (ع) تمتاز باشتمالها وتوفرها على جميع الأشكال الصورية، من تشبيه واستعارة ورمز واستدلال وتضمين وتورية وكناية ومجاز وغيرها، بنحوٍ مكثف يندر أن تجدَ كاتباً أو شاعراً أو خطيباً يتأتى عليها بهذه السعة، فتجدهم يؤثرون استخدام إحداها دون الأخرى أو بعضها دون الآخر.
|