في رابع محرم، تمامًا عند السابعة مساءً، لم تُرفع راية، لم تُتْلَ مرثية، لم يُسكب دم… بل سُكب ضحك.
على شاشةٍ باردة، في زاوية من تطبيقٍ يُشبه المقبرةَ لمن لا عقل له، ظهر شابٌ يلهث، يحمل قدرًا من "القيمَة"، يركض في الشارع كأن القيامة قامت، وتنفجر القهقهات على خلفيّة قصيدة حزينة…
ثلاثُ ثوانٍ كانت كفيلة بمحو ألف عامٍ من البكاء، من وجدانٍ كانت تبكي فيه حتى الحجارة.
فهل هكذا ننتصر للإمام الحسين (عليه السلام)؟
أم هكذا نضحك على نداءٍ كان: "هل من ناصر؟"
من الشعيرة… إلى الستوري، عاشوراء ليست يومًا نرتديه بالسواد ثم ننساه،
ولا مقطعًا نعيد تدويره كل محرم طمعًا في التفاعل.
هي لحظة تُسائل وجودك: إن لم تكن مع الإمام الحسين (عليه السلام) … فمن تكون؟
لكن الرقمنة اجتاحت كل شيء، حتى الحزن، صرنا نقيس حرارة المجلس بعدد المشاهدات، ونُقدّر القصيدة بعدد المشاركات، ونسينا أن القلوب لا تُقاس بالإعجابات، بل بالنبض.
تقول نظريات الإعلام – مثل Mediatization –
إن القداسة حين تدخل الصورة تُستهلك، لا تُتأمل.
وتحذرنا الدراسات النفسية من التكرار العاطفي السطحي،
لأنه يفرّغ الحزن من معناه، كما يُفرّغ الجسد من روحه.
من الاعتبار… إلى الاعتياد
في كل عام، نرى الطف يُعاد، لكننا لا نُعاد نحن إليه.
نتلو الفاجعة بألف قصيدة… لكن دون أن ترتجف أرواحنا.
سابقًا، كان الناس يدخلون المجالس حفاة القلوب،
يطرحون على أنفسهم سؤال المصير:
"هل أنا من الناصرين؟"
أما اليوم؟ الدخول بعدسة. الوقفة بزاوية. البكاء بفلتر.
والخروج… بتفاعل.
لقد جُرّدت كربلاء من رجفتها.
الاعتياد لا يُسكّن الألم، بل يدفنه حيًّا.
من التفاعل الزائف… إلى التفريغ المقدّس
لا أحد يستطيع أن يمحو كربلاء…
لكنهم يسعون لتفريغها.
لتحويلها إلى مشهدٍ يُمرر، لا موقفٍ يُتخذ.
إلى صوتٍ يُبكى عليه، لا يُجَاب.
هذا ما يسميه علماء الثقافة: "تفريغ الرموز"
أن يبقى الشكل، ويُنسى العمق.
أن نُبقي الإمام الحسين (عليه السلام) في القافية… ونُخرجه من الموقف.
وهكذا، نُفرغ السبط من روحه، ثم نقول:
ما زلنا نحب الإمام الحسين (عليه السلام)!
عاشوراء التي بكت لها السماء…
نسينا أن الإمام الحسين (عليه السلام) لم يُقتل بدون أثر.
أن السماء احمرّت، أن الحور بكت، أن التراب نزف.
أن الكون اهتز حين سُفك دمه.
فكيف لا نرتجف؟
كيف نقول: "يا حسين"… ثم نضحك على مشهد دمه؟
حتى الحجر بكى.
أما نحن، فقد تحجّرنا من شدة التكرار،
من كثرة العرض، من فتور التلقّي.
المواكب ليست تهمة – لكن…
نحن لا نهاجم المواكب.
لا نستنكر النشر، ولا القصائد، ولا المآتم.
نقف في وجه الابتذال، والاستهزاء، والتفاهة المستترة باسم الشعائر.
نقف في وجه من جعلوا كربلاء محتوى، لا موقفًا.
الحق لا يُنتصر له بمؤثرات بصرية،
بل بمواقف حقيقية تُؤخذ في صمت القلب، لا أمام الكاميرا.
كيف نستعيد كربلاء؟
1. اصنع مقاطع توقظ القلب، لا تُثير العين.
اجعل المحتوى يخاطب الوجدان، لا الفضول.
2. أخلق بديلًا محترمًا:
وثائقيات عن الثورة، شهادات حية، سرد يفتح الجرح لا يغلقه.
3. أطلق حملات وعي: "كربلاء ليست للمشاركة… بل للمحاسبة" "افتح قلبك، لا عدستك".
4. اكتب ميثاقًا رقميًا للشعائر:
مقاومة الاستهزاء، مناهضة التقليد الساخر، حماية قدسية المجالس.
5. أعد إحياء التجربة الروحية:
اجعل المجلس نافذة على القلب… لا مناسبة للضجيج.
6. علّم عاشوراء كتجربة متكررة:
ليست حدثًا مضى… بل نمط اختبارٍ يتكرر في كل زمان.
كلما سمعت استغاثة وسكتّ… كنت هناك، على الطرف الآخر من النهر.
نداءٌ لا يُكتب… بل يُسمع
كربلاء لا تُختصر بستوري،
ولا تُستعاد بمنشور،
ولا يُعبّر عنها بكلمات مألوفة.
كربلاء إمّا أن تُقيم في قلبك… أو لا تُقيم.
وإن سألك الله:
"هل نصرتَ الإمام الحسين (عليه السلام)؟"
فلن تنفعك عدد المشاركات،
بل فقط: ماذا كنت حين ذُكر اسمه؟
فاختر موقعك.
في الطف، لا مكان للحياد.
إما أن تكون مع الإمام الحسين (عليه السلام) …
أو مع من جعل دمه مادةً تُستَعرض، لا دمعة تُسكب.
|