هناك قصص من التاريخ تدلّل على قدسية العهد، ورسوخه في أعماق ضمير الإنسان، ولو في أحرج المواقف وأقساها عليه:
(في زمن الحجاج الثقفي؛ اتهم جماعة بالانتماء الى فرقة الخوارج، فاحضروا مجلس الحجاج ليعاقبهم على ذلك، فتحقق عن وضع كل منهم وعين لكل عقوبته، وعندما وصل الى آخر رجل منهم، قام المؤذنُ للأذان معلنا دخول وقت الصلاة، فقام الحجاج وسلم المتهم الى أحد الحاضرين واسمه (عنبسة) وقال له: خذه معك الى البيت واحضره لي غدا، حتى أقرر عقوبته، فنفذ عنبسة الأمر وخرج معه من قصر الإمارة، وفي الطريق قال له المتهم: هل يرجى منك خير؟ فقال له عنبسة: حدثني بما تريد، فلعلي أوفق لأعمل لك خيرا.
فقال المتهم: والله لستُ خارجيا، لم أخرج على مسلم ولم أشهر سيفي على أحد، وأنا بريء من هذه التهمة المنسوبة إلي، وبالرغم من انهم قبضوا علي وأنا بريء؛ فان أملي برحمة الله العظيم وطيد، واعلم أن فضله سيشملني، ولا أعذب من دون ذنب، ولكني أرجوك أن تسمح لي بالذهاب الى أهلي هذه الليلة؛ لأودعهم وأوصيهم بوصاياي، وأؤدي حقوق الناس، وسأحضر عندك غداً صباحاً.
يقول عنبسة: لقد استغربت من هذا الطلب الذي توجه به المتهم فلم أجبه، فكرر عليّ السؤالَ حتى أثر كلامه في نفسي، وخطر ببالي أن أتوكل على الله، وأنزل عند رغبته فصممت على ذلك، وقلت له: اذهب، ولكن يجب أن تعاهدني على الرجوع غدا، فقال الرجل: عاهدتك على أن أحضر غدا صباحا، وأشهد الله على هذا العهد، ثم ذهب حتى غاب عن عيني، ولكن ما إن رجعت الى نفسي حتى اضطربت اضطرابا شديدا، وندمت على ما فعلت، فقد عرضت نفسي لغضب الحجاج من دون سبب، ولازمني الإضطراب حتى ذهابي الى البيت، فذكرت ذلك لأهلي فلاموني، ولكن لات حين لوم.
لم أنم تلك الليلة، كنت أتململ كالسليم، واتقلّب كالثكلى، وعند الصباح وفى الرجل بعهده، فتعجبت من مجيئه وقلت له: لماذا حضرت؟
قال: من آمن بالله واعتقد قدرته وعظمته، وعاهد على أمر، وجعل الله شهيدا على عهده؛ فلا يخلف عهده، فاخذته الى قصر الإمارة في الساعة المقررة، وذكرت للحجاج ما جرى بيني وبينه الليلة السابقة، فتعجّب من إيمان الرجل ووفائه بعهده، ثم قال لعنبسة: أتريد أن أعفو عنه لأجلك؟
فقال: لو تتكرمَ عليّ بذلك فلك المنة العظيمة، فعفا الحجاجُ عن المتهم، وأخرجه من دار الإمارة، وقال له بكل لطف ولين: اذهب فأنت حر...) الطفل بين الوراثة والتربية 2/21-22.
ويظهر من هذه القصة: إن العهدَ الذي يُعقد بين انسان وآخر؛ له أساس فطري في نفس الانسان، تبلوره وتنمّيه التربية الاسلامية في العقيدة والعبادة والأخلاق العامة، فالوفاء به وفاء لله عزّ وجل.
|