اعتدت منذ سنوات طوال أن أقطع الطريق بين المنزل ودائرة العمل وبالعكس دون استخدام السيارة الشخصية رغم أن المسافة 8 أميال تقريبا، وربما استخدمتها أيام العمل لظروف خاصة من قبيل التأخر بعد انتهاء دوام العمل لفترة طويلة لحضور مجلس ولائي أو مجلس ترحيم أو للتسوق وما شابه، وهذا الأمر يجعلني صباح كل يوم أمشي نحو 17 دقيقة من البيت إلى محطة القطار (West Harrow Station) مستقلاً قطارين مختلفي الخط، ومن محطة القطار (Dollis Hill Station) أو (Willesden Green Station) نحو دائرة العمل في المركز الحسيني للدراسات مشياً على الأقدام لنحو 17 دقيقة مثلها، أي أقطع في اليوم الواحد أكثر من ساعة مشياً على الأقدام ريحة وجيئة.
في الذهاب أقطع في الصباح الباكر الحديقة العامة (West Harrow Park) التي تقع منتصف الطريق بين المنزل والمحطة، كما أقطع الطريق من المحطة الثانية إلى دائرة العمل ماشياً بين الأزقة حتى أصل الشارع العام ثم أواصل الطريق بين الأزقة حتى مقر العمل، وهكذا في الإياب عصراً بالتوقيت الصيفي أو مساءً بالتوقيت الشتوي أقطع الطريق سيراً مثلما قطعته في الصباح مشياً، لا فرق إن كانت السماء صافية أو ممطرة أو كان الجو حاراً أو بارداً، فمتعة المشي صباحاً والسير مساءً في أيام أسبوع العمل متعة جميلة تحتمها زحمة الشوارع واكتظاظها بوسائل النقل الخاصة والعامة بخاصة في ساعات الذروة صباحاً وعصراً فضلاً عن توفر خدمة المواصلات العامة من حافلات وقطارات التي تجعل الملايين من سكان لندن يستخدمونها بشكل دوري ابتعاداً عن ضجيج الشوارع وكثرة الحفريات والقطوعات التي صارت ميزة شوارع لندن حيث نحمد الله إن مررنا بالسيارة في شارع ليست فيه حفريات لشركة الماء أو الكهرباء أو الهاتف أو البلدية وغيرها.
لا أحدثكم عن إيلاف قريش ورحلتهم في الشتاء والصيف وإنما أحدثكم عن إيلاف رحلة الصباح والعصر (صيفاً حيث تغيب الشمس بدقائق قبل العاشرة مساءً) أو رحلة الصباح والليل (شتاءً حيث تغيب الشمس بدقائق بعد الرابعة عصراً)، فهي إيلافُ كلِّ من فضَّل المواصلات العامة على المواصلات الخاصة، ولكن أحدثكم عن زحمة العطور في الصباح التي إلى المشام تتسامى وأنا أمشي في الحديقة العامة أو بين الأزقة حيث تمتاز بيوت ومنازل لندن بحديقة أمامية فضلاً عن الحديقة الخلفية حيث اعتاد الناس أن يشتلوا في مقادم البيوت أنواع الورود الفواحة، فكلما قطعت مسافة شممت عطراً يختلف عن الذي قبله ويختلف عن الذي بعده وهكذا أكثر من ثلاثين دقيقة في النهار أمشي ورائحة العطور تضوع من واجهة هذا البيت أو ذاك فضلاً عن نسيم الحديقة العامة والأشجار التي تتزين بها الأرصفة، وأما في العصر (صيفاً) أو في الليل (شتاءً)، فإن العطور هذه المرة ليست من أديم الأرض ولا من ورود الحدائق، وإنما هي عطور من صنع الإنسان وأصلها من أديم الأرض، إنها عطور المطابخ التي تنفث رائحتها إلى الخارج، حيث اعتاد أهل الغرب بخاصة في لندن أن تكون وجبتهم الغذائية الأم عصر أو مساء كل يوم، فهم لهم وجبتان واحدة في الصباح وأخرى في العصر أو المساء وبينهما وجبة خفيفة، لا كما هو الحال في المشرق والبلدان العربية فالوجبات ثلاث ربما أكثر حسب الوفرة المالية أو البذخ والبطر حيث فقدت بوصلة المعدة مقاييس الزمن(!)، ولعل من أصعب أيام العودة من العمل الى المنزل هي أيام شهر رمضان المبارك حيث أسير بين الأزقة صائماً بخاصة في الصيف والمشام مفتحة الأبواب على أنواع روائح الطبخ، ولا سيما أن لندن المعروفة بتعدد ثقافاتها تضم جاليات من أكثر من 150 بلداً، ولكل بلد مطبخه وتوابله وعطره ورياحينه.
وهكذا هي الرحلة اليومية في الشتاء والصيف كشكول وخليط من الرياحين الربانية صباحاً وكشكول وخليط من الرياحين الآدمية عصراً أو مساءً وما بينهما عطر الكتب والمؤلفات والمخطوطات التي تمتلئ بها رفوف المركز الحسيني للدراسات الذي امارس فيه الكتابة والتحقيق منذ ثلاثة عقود، هذه الرحلة تداعت إلى ذهني وأنا أهم بتحرير قراءة موضوعية عن كتاب (كشكول إبن أبي تراب الكرباسي) للفقيه آية الله الشيخ محمد بن أبو تراب الكرباسي الصادر في بيروت حديثاً (2025م) عن بيت العلم للنابهين في (648) صفحة من القطع الوزيري وهو من إعداد الأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي.
تنويع وترويح
اختلف أهل اللغة في المعنى المراد من كلمة (كَشْكُول) وأصلها، وإن لم يختلفوا في ضبطها من حيث فتح الكاف الأولى وتسكين الشين وضم الكاف الثانية، وهذا الإختلاف يناقشه معد الكتاب في فصل مستقل من ثمانية محاور، فبعضهم قال أنها مفردة فارسية وآخر أرمينية وثالث آرامية وذهب آخرون أنها عربية، وجرى استخدامها في اللغة التركية، وفي المحصلة النهائية أنها تعني مجموعة أوراق مجتمعة في كراس أو ملف أو مجموعة قصاصات في كتاب أو مجموعة محاضرات في مغلف وهكذا، وفي المعنى الإصطلاحي كما يضيف المعد: (استخدم بعض المتصوفة وبالأخص الدراويش منهم هذه المفردة فيما يحملونه من الحقائب لدى التسول لسحق النفس الأمارة بالسوء) وهذه الحقيبة الكشكول عبارة عن: (الغلاف الخارجي لجوز الهند البحري، فهي فصيلة من فصائل جوز الهند، ذات حجم أكبر من جوز الهند المعروف بثلاثة أضعاف تقريباً، وفي الغالب يكون في وسطه شبه أخدود، ليكون شكله مثل كليتين متلاصقتين من جانبها الداخلي، فيفصل أحدهما عن الآخر، ويكون جوفه فارغاً، إلا مما يسمى بالحليب، ويوضع له حلقه ويُعلق على الكتف، وبما إنه قوي فإنهم استخدموه كحقيبة لوضع ما يحصَّلونه من المال والغذاء فيه، فأطلقوا عليه إسم الكشكول، وشاع في الوسط الفارسي ثم العربي والتركي وغيرها).
ويختلف الكشكول إن كان مجتمعاً في كتاب عن الكتاب إن كان محوره موضوعاً واحداً أو موضوعات عدة في محور واحدة أو نقطة مركزية، فالأول متنوع الأبواب ويؤلف عادة للترويح عن النفس إلى جانب تعميم الفائدة المعرفية، وبتعبير الناشر الأديب اللبناني عبد الحسن دهيني وتشبيهه للكشكول: (إذا كان جميلاً ورائعاً أن يتجول المرء في حديقة فيها نوع واحد من الورد، فالأجمل والأروع أن يتجول المرء في حديقة فيها أنواع عدّة من الورود والأزهار، فلاشك أن ناظريه سيستمتعان بمنظر تلك الورود وألوانها، بينما يشم في كل خطوة يخطوها في تلك الحديقة أريجاً مختلفاً عن الذي تنشقَّه في خطوته السابقة، وذلك يشبه التجول في بستان يضم أشجاراً من نوع واحد من الفاكهة، أو بستان يحتوي على أنواع عدة من الفواكه فيتناول منها ما لذَّ وطاب، فيستمتع عندها بلذيذ طعمها، ويستفيد غذاءً من تنوع فوائدها).
وعن الغرض من الكشكول المعرفي يضيف الناشر: (فكرة كتب الكشكول انطلقت من هذه الفكرة، فمؤلفوها يجدون في تدوين مواضيعها تخفيفاً وراحة لهم من عبء البحث والدرس، وكذلك القارئ يجد فيها تخفيفاً وراحة له من عبء قراءة كتاب قد يكون موضوع بحثه صعباً أو معقداً أو طويلاً، فكتاب الكشكول هو الفاصل المريح للمؤلف والقارئ في آن واحد).
ويختلف كشكول عن كشكول، وفي العادة يكون الكشكول حصيلة ما جمعه صاحبه من معلومات وموضوعات مختلفة في أبواب الثقافة والأدب والفن والفقه والتاريخ والسيرة وغيرها استلها من كتب ومؤلفين آخرين أو سمعها وسطرها في قصاصات أو دفتر خاص ثم أظهرها بعد فترة في كتاب مستقل فيكون الكتاب أو الكشكول هو من حصائل مسموعاته وقراءاته وأحب أن يشارك الآخرين بما استهواه فأظهره في كتاب لتعم الفائدة.
وبعض الكتب التي يطلق عليها صاحبها إسم "الكشكول"، إنما هي أفكار المؤلف في موضوعات متنوعة حررها بشكل مختصر وجمعها في كتاب مستقل، وبعضهم والف بين ما حرر من عنده وبين ما جمع من غيره وأطلق عليه إسم الكشكول.
وبين أيدينا كشكول العلامة الفقيه آية الله الشيخ محمد بن أبو تراب علي الكرباسي (1324- 1399هــ = 1906- 1979م)، المولود في النجف الأشرف بالعراق وعاش في كربلاء المقدسة وتوفاه الله في مدينة قم المقدسة، وعنه يقول نجله المعد في التقدمة: (كان الوالد يطالع في العلوم المختلفة وفي الصحف المتداولة وفي اتجاهات مختلفة ليكتسب المزيد من المعارف العامة والمواضيع الهامة، وكان إذا أعجبته فكرة أو موضوعاً قيَّده في دفتر خاص بذلك، أو في قصاصة ورق)، وما تبقى من هذه القصاصات التي ضاع بعضها بسبب الأوضاع الأمنية الصعبة في العراق والهجرة القسرية إلى ايران سنة 1971م لأسباب طائفية، جمعها النجل بوصية من والده في هذا الكتاب الذي كان لي شرف مطالعته ومراجعته والتعليق عليه، فضلاً عن قيام الشاعر العراقي الأستاذ حسين البزاز الموسوي بالترجمة النظمية لما ورد في قصاصات الكشكول من أشعار باللغة الفارسية.
تقاريظ ومحاور
صدَّر المعد للكشكول بسيرة مختصرة عن حياة والده من حيث النسب والدراسة وبموجز عن مؤلفاته المطبوعة والمخطوطة، وأورد خمسين تقريظاً ما بين مدح ورثاء وتوثيق شعري لمؤلفات صاحب الكشكول ومؤلفاته، ما بين بيت واحد ورباعية ومقطوعة وقصيدة طويلة، لعدد من الشعراء والأدباء من جنسيات مختلفة وباللغات العربية والفارسية والأردوية والإنكليزية، في مقدمتهم معد الكشكول (عشرون بيتاً أو مقطوعة أو قصيدة)، فضلا عن الشعراء: الدكتور سلمان آل طعمة (العراق) (قصيدتان)، الشيخ سلطان علي نوحه خوان الصابري (إيران) (8 قصائد)، الشاعر الفقيد جعفر الشيخ عباس الحائري (العراق) (قصيدة واحدة)، الشاعر الخطيب الفقيد الشيخ عبد الأمير النصراوي (العراق) (قصيدة واحدة)، الشاعر الخطيب السيد مرتضى السندي الحسني (العراق) (قصيدة واحدة)، الشاعر الدكتور عبد العزيز شَبَّين (الجزائر) (5 قصائد و4 رباعيات)، الشاعر الأديب عُدي كرماشة (العراق) (قصيدة واحدة)، الشاعر الدكتور ناصر النجفي (العراق) (قصيدة واحدة)، الشاعر السيد حسين البزاز الموسوي (العراق) (قصيدة واحدة- انكليزي)، الشاعر الخطيب الفقيد الدكتور محمد جواد الوزني (العراق) (قصيدة واحدة)، الشاعر الأديب رضا الخفاجي (العراق) (قصيدة واحدة)، الشاعر الشيخ مصطفى نصيري (إيران) (قصيدة واحدة- فارسي)، الشاعر الأديب السيد عامر علي الكاظمي (باكستان) (قصيدة واحدة- أردو)، الشاعر الأديب محمد علي الحلاق الحائري (العراق) (قصيدة واحدة).
وجاءت عناوين التقريظات على النحو التالي: الوجه الصبوح، أكبرت مجدك، مضى حفيد مالك، قد كنت حبراً فقيهاً، عنوان العلم والتقى، آية الحق، جبل شامخ، عُرُبُ الكلام خريدة، ضاء كالنبراس، أنعم بهم من فصيل، رثاء الصفوة الخالصة، عِبَرُ الحياة، والدنا، السعيدُ أبو تراب، محمد ما كل ميت سيفنى، سميُّ طه، المسك، معالي الأب، جنة العلم، شيخي ووالدي، أطعمةٌ أشربةٌ صالحة، سعة الرزق مرادي، إيجازه لطيف، أسرة الكرباسي، فريد تأريخه، تعليقة الفقه، تصنيف والدي، كشكولك الغالي، تعليقة الأصول، سفرٌ يُضيُ كالنجوم، سعةُ الأماني الخضر، سفراً دليل الزائر، أيها الكرباسي العظيم، للأطعمة أحكامها كذلك الأشربة، سِفرٌ أتى في الفقه، أكبر رأيه في الأصول، التاريخ مدرسة الواعين، ورثة علوم الطاهرينا، كشكول سما بالفضل ذكراً، مريد الصادق، المتمسك بباب البتول، شيخ الفقاهة، ذكرى والدي، قطب الهلال، الشمس المرمر، حليف الصدق، في نهجه خير، سِفرُ سلاطين الشيعة، تحية للوالد، وأخيراً نونية الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز شَبِّين مقرظاً الكتاب تحت عنوان "كشكول كالزهر في نَيْسانه" من بحر مجزوء الرجز قال في أولها:
كشكولُ من ألوانه *** كالزَّهر في نَيْسانِه
أوراقُه حملن ما ** منه شذا أغصانِه
ويختمها بقوله:
كشكولُ حرفٍ هاجَه الــ *** ــسرُّ بمهرجانه
ولأن كشكول الأب ضمَّ (256)
عنواناً في معارف شتى فإن الكرباسي الإبن وزعه في أربعة عشر فصلاً وعلى النحو التالي: في الأدب العربي والفارسي (63 عنواناً)، في التراث الإسلامي (12)، في المواعظ والحكم (27)، في الحافظة وتقويتها (8)، في بيان بعض الفوائد المهمة (32)، في قضايا تاريخية (18)، في النوادر (14)، في الحكايات (28)، في النساء الفاضلات (13)، في الأكّالين النهمين (3)، في المناظرات (5)، في العقائد (11)، في الدعاء والتميمة والحرز (12)، وفي المستدركات (10 مستدركات).
لا شك أنَّ لكل كاتب ومؤلف وأديب قصاصات ومعلومات واستلالات قيدها في أوراق أو دفتر، وهي تمثل مجموع ما استراح اليه عند مطالعته لهذا الكتاب أو ذاك أو ما تناهى إلى سمعه، ولو أمكن لكل منهم إظهارها إلى النور في كتاب بعد عمر مديد من العطاء، لتوفرت لدى المكتبات الكثير من الكشاكيل المفيدة والنافعة.
|