الأهمية الكبرى التي تتميز بها الرسالة الإسلامية على مدى التاريخ الطويل من عمرها؛ أنها تحمل بين طيّاتها مشروعاً لتغيير الإنسان تغييراً حقيقياً جوهرياً، يبدأ من الداخل كما يتحدث القرآن في قوله تعالى: (إن الله لا يغيرُ ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم) الرعد: 11.
وهذا ما كان يهدف إليه الرسول الكريم (ص) ومن بعده أهل بيته (ع)، من خلق حالة من التفاعل بين الإنسان وبين المشروع الإسلامي الإلهي التغييري، كما في قوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور...) البقرة: 257، وقوله تعالى: (الر كِتابٌ أَنزَلناهُ إِليْكَ لِتُخرِجَ الناسَ مِنَ الظلُماتِ إِلَى النورِ بِإِذنِ رَبِّهِم إِلى صِراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ) إبراهيم: 1.
وكما أشار إلى ذلك الإمام علي (ع) في نهج البلاغة؛ حيث قال عن الهدف من بعثة الأنبياء (ع): (ليثيروا للناس دفائن العقول)، باعتبار أن العقل مرتكز الشقاء والسعادة، كما ورد عن الإمام الصادق (ع): (إن اللهَ خلق العقل، وقال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت شيئاً أحب إليّ منك لك الثواب وعليك العقاب)، وتغيير الإنسان كما يقرر القرآن؛ يقوم على أساس الإيمان بالخالق والنظرة التوحيدية للكون التي تتأتى للإنسان من خلال التعمق والتأمل في معرفة النفس: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق...) فصلت: 53، وقوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا...) الأعراف: 172. ومن هنا يمكن لنا فهم الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) الباعثة على ضرورة معرفة النفس، لأنها طريق لمعرفة الله تعالى، فقد ورد عن الإمام علي (ع):(من عرف نفسه فقد عرف ربه).
وهذه النظرة التوحيدية التجريدية القائمة على معرفة المخلوق المجرد (النفس) التي تناولها الإسلام، وتحدث عنها القرآن في كثير من آياته: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) الكهف: 110. وقوله تعالى: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) البقرة: 163، تتواطأ عليها جميع الأديان السماوية، وهي أصل من الأصول التي تقوم عليها مدرسة أهل البيت (ع)، ولا يكتفي الإسلام بهذه النظرة التوحيدية، وإنما يؤكد على ضرورة تحول هذه النظرة والمعرفة الإنسانية للنفس إلى سلوك وعمل وممارسة، وهو أصل آخر يضاف إلى بقية الأصول الإسلامية من أجل إبراز النظرية القيمية والمفاهيمية في الفكر الإسلامي، وقد أكّد القرآن على ذلك: (مثل الذين حُمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله...) الجمعة: 5.
وقد ورد عن الإمام علي (ع): (أيها الناس إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلكم تهتدون، إن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل قد رأيت الحجة عليه أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ عن علمه منها على هذا الجاهل المتحيّر في جهله وكلاهما حائر بائر).
علي الخباز, [25/07/2025 12:43 ص]
وهذا التأكيد من قبل أئمة أهل البيت(ع) على لزوم العمل بالعلم، جاء ليكشف عن المهمة الخطيرة التي يتحملها كل عالم تجاه علمه، فدور العلم والمعرفة في حياة الإنسان ليس لغرض المباهاة والتعالي على الآخرين، بل الغرض الأول والدور الأساس للعلم في حياة الإنسان هو توجيه الإنسان، وتسييره في طريق الالتزام بما عرفه وعلمه حقاً وحقيقة، وإلا عاد علمه عليه وبالاً.
ولا نجاوز الحقيقة إذا قلنا أن مهمة الرسالة الإسلامية هي إنقاذ البشرية من كل ما تعيشه من الأزمات الخانقة؛ والتي أوصلت العالم إلى عنق الزجاجة، وكم هي الحاجة ماسة اليوم إلى بعث جديد لهذه الرسالة؛ شريطة أن يكون الفهم على مستوى الحدث والواقع، فهي قادرة على إصلاح الفكر البشري وإعادة بناء الإنسان - الفرد والمجتمع - الواعي لما تتمتعُ به من عناصر قوة وجذب وقدرة على إخضاع الآخر، والنفاذ إلى عمقه: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم...) الأنفال: 24، فهي تتميز بعناصر قوة أبرزها:
• ضمان العدالة الاجتماعية: (وأمرت لأعدل بينكم) الشورى: 15.
• تكريم الإنسان (الرجل والمرأة) بعيداً عن اللون والعرق: (ولقد كرمنا بني آدم) الإسراء: 70.
• صيانة حقوق الإنسان: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات: 13.
وهذه العناصر هي التي تتمايز بها الأمم المتحضرة عن غيرها، والعالم المعاصر يرفعُ هذه الشعارات، ويدّعي دعوى عريضة بالعمل على تحقيقها؛ ولكنه يتغافل عن قيمة أساسية وهي قيمة البعد الأخلاقي والقيمي في حياة الإنسان، ودوره في خدمة المجتمع، وتحميله المسؤولية في سبيل الدعوة إلى الفكر السليم، وإبراز المشروع الإسلامي إلى العالم... وفي سبيل ذلك برزت عدة دراسات هدفها بلورة وإثارة هذا الدور - دور المثقف - وإعطاؤه البعد المعاصر، بعيداً عن الدور التقليدي المتعارف في الوسط الاجتماعي، المتمثل في المساهمة في عملية النقد الذاتي والفكر والسلوك وإرشاد الأمة، بما يتناسب مع أصالتها، ويحفظ هويتها الثقافية، وخصوصيتها الإسلامية.
|