• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : المنبر الحسيني والمنطقة المحايدة. ج5 .
                          • الكاتب : ايليا امامي .

المنبر الحسيني والمنطقة المحايدة. ج5

الجزء الخامس.

الشرط الثاني: أن لا يسقي بذور الخلاف بين المؤمنين.

فتارة يكون لدينا شخص منحرف أو مفهوم ديني خاطئ لا بد من بيانه وتحذير المؤمنين منه حفظاً لعقيدتهم، فهذا أمر مفروغ منه ولا يندرج تحت عنوان الفتنة و زرع الخلاف.

لكن أحياناً يكون الدخول في مسائل لا ترتبط بعقيدة الناس، بل تعبر عن الانحياز إلى موقف سياسي معين على حساب آخر، وتوظيف المنبر لنصرة هذه الرؤية السياسية على حساب تلك.

مثاله: عندما يقرأ الخطيب أن الحسين عليه السلام قال لجنود عمر بن سعد في خطبته الثانية يوم عاشوراء: (فقد ملئت بطونكم من الحرام، وطبع على قلوبكم، و يلكم ألا تنصتون؟ ألا تسمعون...) 

فالإسماع: أن الخطيب مسؤول عن بيان معنى (ملئت بطونكم من الحرام) بأفضل صورة، وشرح أثر اللقمة الحرام على سلوك الإنسان وعاقبته.

وإن ثمة مصداق يعتبر الموقف منه ثابتاً دينياً ولا يختلف عليه اثنان، فلا بأس بذكره، كأمثال من قتلوا زوار الحسين عليه السلام، بعد علمهم بحقه، ونحن هنا نتكلم عن المتوكل العباسي ومجرمي البعث والقاعدة وأمثالهم ممن سفكوا دماء الزوار، حيث لا يوجد أحتمال ولا واحد بالمئة أن يختلف الرأي العام للمجتمع الحسيني حول هذه الأسماء، ليكون المنبر مساهماً في إثارة الخلاف.

وأما الإقناع: فهو أن يبدأ الخطيب في لحظة انفعال من هذا أو احتقان من ذاك، باستعراض المسميات المعاصرة التي ينطبق عليها -بحسب رؤيته هو- وصف (ملئت بطونكم من الحرام)، وعندها سيكون طرح المنبر مثل طرح الناس، فالجميع يتهم الجميع، والمنبر يساهم في حفلة الاتهامات.

* ثق أيها القارئ الكريم أن حديث الخطيب عن المصاديق والأسماء بوضوح شديد، سيحول المنبر من جهة بناء وتعليم، إلى بؤرة توتر، ولن ينفع الناس في شيء لأن اصطفافاتهم السياسية تصنع خارج المنبر، ولكل منهم قناعته.

إذا نزلت إلى الشارع اليوم، وسألت الناس: من يستحق أن تخاطبه بعبارة (ملئت بطونكم من الحرام)، فستسمع ألف جواب..
فئة من الناس ستقول: اقتصاديات الأحزاب السياسية في العراق..
فئة ستقول: البعثيون والدواعش..
فئة ستقول: جماعة نور زهير..
فئة ستقول: من باعوا خور عبد الله..
فئة ستقول: من يأكلون الدجاج المستورد..
مدعي المهدوية سيقولون: المراجع أعداء الامام المهدي الآكلين للخمس..
فئة ستقول: المتمرجعون الذين يقبضون الحقوق الشرعية بدون وجه حق..

وهكذا إلى ما لا نهاية من الاحتمالات التي ترد على بال كل إنسان، بحسب زاوية نظره للواقع الذي يحيط به في تلك الفترة، وهذا حال المجتمع في كل زمان ومكان ولا غرابة فيه، وطالما كانت قوائم أسماء الشياطين والمقدسين في حالة تبدل مستمر بحسب المزاج أو الظرف أو المصلحة، فشيطان اليوم قد يشطب، ويُكتب مقدساً في الغد، أو العكس.

نعم، من حق المنبر بيان الموقف من اسرائيل والتطبيع معها، لكن ليس من حقه وصف هذا الطرف السياسي أو ذاك بأنه عميل صهيوني، وإنما يدخل في معترك الأسماء إذا دخل الفقيه الذي يقلده.

ومن حق المنبر التحذير مما يسمى الديانة الإبراهيمية أو اتفاقات إبراهام، لكن ليس من حقه رمي التهم على المختلفين معه بأنهم يؤيدون هذه الفكرة.

ومن حق المنبر أن يقول : من حق أي أمة في الدفاع عن نفسها، ومنها ايران مثلاً، ولكن ليس من حقه أن يتحول إلى منصة تعبوية دون إذن الفقيه الذي يقلده.

ومن حق المنبر أن يصيح عالياً برفض الفساد المالي والاداري، ولكن ليس من حقه ممارسة الاستهداف السياسي، لأنه إن شيطن الجميع فكأنه ضد العمل السياسي، وإن شيطن بعضهم استغله البعض الآخر.

هل تعلم أنه لم يمر حدث سياسي واحد إلا وانقسمت فيه الطائفة الشيعية كما ينقسم بقية المجتمع؟ هل تدرك ذلك قبل اقحام المنبر في دوامة الاختلاف؟ وهل تملك - إذا أقحمته مرة- أن تمتنع في مرات قادمة، عندما يطالبك المجتمع بالتدخل، بما أنك عودته على استخدام المنبر في هذه الجدليات؟

إن كان لديك غيمة من الاعتراضات تدور في رأسك حتى الأن، فلاحظ الشرط الثالث المتمم لهذا الشرط.

الشرط الثالث: أن لا يساهم في قمع المنبر وملاحقته.

يبتعد أصحاب نهج (الإسماع)  -وهم الغالبية العظمى من الخطباء- عن التصادم المباشر مع السلطات السياسية، واستفزازها عبر تكرار التدخل في شؤونها، لأن المنبر مدرسة، والمدرسة تحتاج فسحة لتعمل فيها وتؤتي ثمارها، ولذا كانت أعظم مدرسة في تاريخ حضور المعصومين هي مدرسة الإمامين الصادقين عليهما السلام، لأنها حصلت على الفسحة الكافية.

وهذا هو نهج الشيخ الوائلي وأمثاله، فهو يعتقد أنه متى ما استطاع المنبر صناعة الإنسان الحقيقي، فهذا الانسان سيعرف موقفه الصحيح، ومتى يقف في وجه الظلم.

* وللمفارقة، فأكثر الشهداء من خطباء المنبر هم من هؤلاء الذين تجنبوا السياسة، لكن يبدو أن السلطة كانت تدرك خطورتهم أكثر مما يدركها الجمهور المتحمس.

* وأما أصحاب نهج (الإقناع)، الذي يعتمد تلقين الجمهور بكل الجزئيات والتفاصيل المعاصرة، مما يجعله في مواجهة السلطات .. ويجعل خطابه مرحلياً جداً، قصير العمر، كالصفحة الرئيسية في الجرائد الصباحية، التي تبدو مثيرة جداً بسبب وضوحها ومباشرتها، ولكن مفعولها (الصادم)  ينتهي قبل حلول الظهيرة.

* هل تتذكر عندما حكيت لك في أول هذا المقال أن الشيخ الوائلي كان يشتكي من مطالبة الناس له أن يكون طرحه مختلفاً ؟.. دعني أذكرك بما قلناه نصاً:

( .. بدأ الخطيب يشتكي لوالدي والجالسين حوله، من حالة أصبحت متكررة في هذه القصاصات، وهي أنها تطلب منه بإلحاح، وبإهانة وتجريح أحياناً، التصريح بأسم الطاغية صدام على المنبر وشن هجوم لاذع عليه، أسوة بالخطيب (ع. م) الذي لا تمر ليلة إلا ويلعن فيها صدام على المنبر).
 
* هذا الحدث عندما كنت طفلاً لم أكمل الثامنة من العمر، ولكن دعني أخبرك ماذا جرى بعدها بسنوات:

ما جرى بعدها، أن جيلاً كاملاً من الشباب العراقي تربى في التسعينات على محاضرات الشيخ الوائلي المنبرية، بينما ذلك الخطيب لم نستفد منه شيئاً لأن السلطات كانت تمنع محاضراته وتعاقب عليها.

بالنتيجة، فنحن في الوقت الذي كنا فيه بأمس الحاجة لمن يعلمنا أبجديات ديننا وأبسط مبادئه، كان الشيخ الوائلي حاضراً، ولم تكن لتنفعنا شتائم غيره.

سنة 2000م، كنت أسير في (شارع المحافظة) في مدينتي، ومررت على سيارة نجدة، والشرطي جالس فيها ويسمع محاضرة الشيخ الوائلي رحمه الله، عبر راديو السيارة، والصوت عال وهو لا يبالي، ونفس هؤلاء الشرطة كانوا يغضون النظر عن ملاحقتنا في البساتين عندما كنا نتوجه لزيارة الأربعين مشياً، فكان اللعين صدام يستعين بالبعثية والفدائيين.

* جيل كامل في العراق، أنقذه الشيخ الوائلي وإذاعة طهران، فكان الشعب العراقي كله يسمع محاضرته بهدوء وارتياح كل ظهيرة، بينما الخطيب الآخر الذي صدر نفسه في الكويت (أشجع من الوائلي) منعت محاضراته في العراق لأنه شتم صدام، ومنعت في إذاعة طهران لأنه شتم إيران!!

فمن هو الخاسر ؟ لو أن جيلاً تربى على الجهل، لأنه ببساطة لم يسمع خطيباً يعلمه معالم دينه في حياته، لأن الخطيب قال كلمة عن البلد الفلاني وتم منعه، فمن هو الخاسر؟ 

* عندما يُقال لخطيب حسيني (إذا لم تذكر قضية خور عبد الله فمنبرك أموي) !! ألا يدرك هذا القائل أن المنبر الحسيني هو لشيعة الكويت بنفس القدر الذي هو لشيعة العراق؟! وأن على المنبر أن يخرج من دائرة الخلافات بين المجتمعات الشيعية، لتتاح له فرصة تعليم الناس مبادئ دينها؟!!

ماذا لو أراد منبر حسيني التعرض لقضية سياسية بين دولتين يختلف عليها المواطنون الشيعة في تلك الدول؟ وكل منهم يرى صحة موقف دولته؟

ماذا لو كانت قضية وطنية بين إيران وآذربيجان؟
أو قضية وطنية بين الهند وباكستان؟
أو بين العراق والكويت؟
أو بين السعودية والعراق؟
أو بين لبنان والسعودية؟

فماذا لو اعتقد الشيعة في هذه الدول أن مواقف دولتهم صحيحة، والدولة الأخرى معتدية؟ من من خطباء المنبر لديه الحق في تقرير صاحب الحق؟ ليقرر بعدها إقحام المنبر في هذا المعترك؟ وبعدها سيحرم هذا المنبر للأبد من القراءة في تلك الدولة! لماذا ؟ لأجل موقف انفعالي عابر، أجتهد الخطيب فسماه (كلمة حق)؟!

هل من مصلحة المنبر الحسيني، أن يدخل في جدلية (الخليج عربي أم فارسي) ؟ أو جدلية (كشمير هندية أم باكستانية) ؟ أو جدلية (أحقية الحوثي في ضرب أرامكو الموجودة في مناطق الشيعة) ؟

بالله عليكم ماذا سيبقى عندها من الوقت والتركيز والهدوء في المحاضرة، لنسمع كلام أهل البيت عليهم السلام ؟ وأي عملية تعليمية تأتي بلا هدوء وتركيز؟. 

* فخلاصة هذه النقطة، أن على الخطيب الحسيني أن يوسع من إدراكه لعظمة هذا المنبر وأنه مسؤول عن مجتمعات كثيرة، وليس مكرساً للنزاعات الحدودية والمشاكل الخدمية لشعب واحد بعينه.

* نحن بسبب عيشنا وسط بيئة شيعية.. نتصور دائماً أن كل تراث المعصومين يتعلق بالشيعة !! وننسى أن الحضور الثقافي والديني لأهل البيت عليهم السلام كان في وسط المسلمين عموماً ..  والكلام موجه للجميع...

فإذا ذكرت أحاديث علماء السوء .. نبحث عن المقصودين وسط علمائنا !! رغم أنهم وقت صدور النص لا يعدون على الأصابع.

واذا ذكر غدر أهل الكوفة بالحسين عليه السلام.. نبحث عنهم في أجداد هذا المسكين صاحب الموكب.. كما يبحث الوهابية بيننا .. متناسين أجدادهم هم.. الذي أورثوهم هذا النصب.

وإذا ذكرت أحاديث خروج الأمة عن الدين.. يتصور بعضنا بيئته الشيعية فقط، وينسى أن الشيعة في كل ذلك ليسوا أكثر من عشرة بالمئة .. فماذا عن التسعين؟!

نفس الشيئ بالنسبة للمنبر .. فنحن نفترض أن الخطاب يجب أن يكون للبيئة الخاصة جداً.. التي تتفق معنا في كل شيء.. وننسى أن هناك أمة كاملة يجب الحديث معها وإلقاء الحجة عليها.. ولن يتحقق إلا بعرض العقائد والمواقف بصورتها العامة.

*فهل نستكثر على المنبر أن يكون في منطقة الحياد بهذا المعنى؟ ألم يجعل الحسين عليه السلام بيت الله الحرام منطقة حياد؟ 
أليست حتى الجاهلية لديها أشهر حرم تعتبرها منطقة حياد؟
وفي كل شيء يوجد منطق الحياد، وكذا في الخطاب الحسيني.

* وقد أعجبني قول الكاتب الروسي انطوان تشيخوف (على الكاتب أن يصف الحياة كما يراها لا كما يجب أن تكون، ويترك الحكم للقارئ)

* ليس خوفاً من الموت أو القمع، التزم الشيخ الوائلي في العراق، والشيخ محسن قرائتي في إيران، بانتشال المنبر من معترك السياسة، وتكريس الخطاب لبناء الإنسان، بل ذاك لتكوين خطاب عابر للحواجز، تحتاجه الناس في أولوياتها الدينية، وعدم حبس الخطاب وتكبيله بقيود الخصومات السياسية، إذ ستدمره القوى والأحزاب والحكومات بمكائنها الضخمة، قبل أن يصل إلى أقرب الناس.

* فماذا نستفيد إذا فقدنا أعظم صوت إعلامي شيعي وهو المنبر، ولم يعد هناك من يعلمنا معالم ديننا، وخسرنا المبادئ الثابتة على حساب التفاصيل المتغيرة والدخول في السياسة؟

*وكما يقول أمير المؤمنين عليه السلام (فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله)؟!!

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=205884
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 07 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 07 / 27