صرخة من ذاكرة امرأة
يضعنا السرد الروائي أمام عدة حالات شعورية عميقة وبليغة في المعنى والرمزية الدلالة , في ذاتية شعور أم فقدت ابنها الصغير , نتيجة انفجار سيارة مفخخة في حي شعبي وقرب بيتها , فتناثرت اشلاء الضحايا ومن جملتهم أطفالها الثلاثة , ربما عقلها يسلم للأمر الفاجعة الحزينة , لكن قلبها يرفض ذلك , بأن طفلها الصغير ( صبيح) ما زال حياً لم يطاله الموت في الانفجار المرعب , بذا الشكل يغوص السرد الروائي بتفاصيل الحدث الجلل , ويرسم بريشته فنية مبدعة في وضع لوحة الواقع في الاطار الصورة العامة , والحياة العامة بكل التفاصيل الدقيقية , في ظل الرعب الذي يطال الناس ويمزق سكينة الحياة ومعيشتهم , من الانفجارات المرعبة التي تنفجر في الأماكن العامة المزدحمة , وخصوصاً الأحياء الشعبية , أو وصف وتصوير الحالة العراقية المأساوية في ظل الارهاب الدموي , بأن عامة الناس الابرياء , هم الضحايا , وهم من يدفعون ضريبة الدم من الافعال الطائشة والعشوائية من الجماعات الارهابية المتطرفة , التي هدفها تدمير وتخريب العراق , في الإفراط في رعب الدموي في كل مكان ( لقد بات الوضع مقلقاً جداً , واخذت الامور تنحى منحى خطراً , حينما بدأت السيارات المفخفخة بزرع الرعب في نفوس المواطنين الآمنين , حتى بات الجميع يرى اي سيارة تمر بالقرب منهم , وكأنها الوسيلة الوحيدة التي ستنقلهم الى العالم الآخر ) , براعة السرد الروائي للأحداث يتحرك على مساحات واسعة من الواقع الفعلي والتصوير الشعوري , بين المعطيات على الأرض والخيال , بين الحقيقة والوهم , بين الشك واليقين , يزيد من فعاليته في حراكاته الدراماتيكية الصاعدة الى الذروة , باللغة السردية المرهفة والمشوقة , التي تجذب القارئ من خناقه , لمتابعة مسلسل الاحداث الدرامية في حوراراته , أومتابعة مسلسل الموت , وقد اخذ شكل سيناريو في المونتاج السينمائي , في مسلسل الموت الطويل , ومن ناحية الايغال في الهواجس القلقة لقلب الام المفجوعة , ودورها بارزاً , ليس فقط في صلب الاحداث المتن السردي فحسب , وانما في تصاعده الى عمق الازمة النفسية , يغوص في سايكولوجية الام , التي ترفض بأن الموت خطف طفلها الصغير ( صبيح ) لذلك وجدت الملجأ الوحيد لمدارات فاجعتها , هي الغوص الاحلام , ومخاطبة الاشباح في الليل , لكي يعلموها بمصير أبنها المفقود , تخلت عن كل الامنيات , سوى أمنية واحدة لا غيرها ( - أمنيتي الوحيدة هي أن أعرف مصير أبني المفقود ( صبيح ) أخذت الاشباح بالتشكيل على هيئة حلقة وخذوا تشاورن فيما بينهم ) هذا شعور الام المؤلم في عسف الانتظار الصعب والمرهق , حتى يطل اليقين وتتضح الصورة الحقيقية , لكي يبدد الشك , هذا الاحساس العميق يمور بغليانه في شعورها الداخلي للام , كأنه يلسعها بسياخ النار . وتدور مسيرة حياتها على هذا المنوال , في عملية تراجيدية لم تتوقف , حتى اتهمها زوجها (حميد ) بالجنون والهذيان في الاحلام وصوتها العالي, وهي تخاطب الاشباح في الليل , كأنهم هم شفاعتها في كشف حقيقة أبنها المفقود , رغم ان زوجها يعتقد جازماً بأن اطفاله الثلاثة جميعهم طالهم الموت , وسلم أمر للقدر , بأنهم اصبحوا شهداء من طيور الجنة ( - أنت مؤمن بالله ومؤمن بالقضاء والقدر , أحتسبهم شهداء عند الله ) لانه تلقى وقائع الاحداث الدموية من زوجته التي اصابت بالحادث ايضاً ونقلت الى المستشفى وكذلك من احاديث الناس ( - تقول زوجتي انها رأت أولادك الثلاثة وهم يلعبون عند الباب داركم , وبعدها حدث انفجار عنيف بالقرب منهم , عثرنا على جثة أثنان منهم , اما الثالث فلم نعثر له على اي اثر ) ولكن دفنوا في ثلاثة قبور , يزورانهم بين فترة واخرى , لكن الام ظلت على اصرارها العنيد بأن طفلها الصغير , لم يخطفه الموت , ضاق زوجها ذرعاً من هذيانها الجنوني , وهددها بالطلاق لانها اصبحت مجنونة ( - حسناً , ما دمت مصرة على هذا الجنون اذهبي وانت طالق , سوف اذهب الى عملي , وعندما أعود لا اريدك أن أراك هنا ) تركها وحيدة في محنتها الصعبة وحيدة , وتزوج غيرها , تركها في حزنها المؤلم , وهي تناجي من يسعفها ويخرجها من هذا البئر العميق , سوى الاستماع بدموع باكية الى اغنية المطرب الكبير ( حميد منصور ) في اغنيته المشهورة جداً , بين الناس تقول بعض كلماتها ( تجينا .. تجينا / ردتك تجينا .. راحت واجت الايام ... / ردتك تجينا .. علينا .... علينا ...... بس مر علينا ...... وتورد الاحلام .... من تمر علينا ) وفي تطور الأحداث الدراماتيكية , يزور الاب (حميد ) قبور اولاده الثلاثة , ويلتقي مع أحد الشيوخ , الذي يدعي بمخاطبة الموتى و يدخل في حوارات معهم , ويقول لكل ميت له قصة لم تكتمل فصولها النهائية , ولكنه يوجه كلامه الى الاب الذي فقد أطفاله الثلاثة , يخبره بالخبر اليقين ( - ابنك الأكبر يسلم عليك ويقول ان اخاه الاصغر لم يغادر عالم الاحياء , وان صحيفته في عالم الأموات مازالت مطوية ولم تنشر حتى الآن ) عندها شعر بالندم الشديد في الاساءة الى زوجته وأم أطفاله الثلاثة , اتهمها بالجنون والهذيان . وبعد ذلك يأخذنا السرد الروائي الى مقولة ( الله يمهل ولا يهمل ) بعد سنين طويلة , في حادثة خلاف مالي بين اثنين شركاء في ادارة متجر تجاري , أحدهم كشف السر الذي كان مطوياً لسنوات , بأن شريكه في المحل اشترى طفلاً صغيراً بعد الفاجعة في انفجار عنيف في إحدى الأحياء الشعبية , ويعرف عائلة الطفل المفقود من سنوات , وفي صبيحة احد الايام طرق باب بيت ( حميد ) واخبره بأن طفله الصغير المفقود مازال حياً , وفي مشهد دراماتيكي ليؤكد ان قلب الام لم يخطئ مهما كانت الأحوال , في عرض بعض الشبان يسيرون أمامها وحين جاء الدور على ابنها انهضت مرعوبة لتاخذ الشاب في حضنها وهي تبكي وتصرخ بكل قوة الشوق والحنين هذا ابني ( صبيح ) وليس اسمه ( احمد ) كما ينادونه ( - هرولت اليه مسرعة واحتضنته وغابت عن الوعي لتهوي بكامل حزنها ) واخذوا يرشون الماء على وجهها لمحاولة ايقاظها , وحينما عادت الى وعيها ورشدها قالت باكية العينين ( - ألم أقل لكم بأني لست مجنونة / ألم أقل لكم بأن ابني حي يرزق / أين أنت يا حميد / تعال وانظر الى ابنك / تعال و كفر عن سيئاتك / لقد طلقتني بسبب إحساس الأم الذي لا يخيب أبداً / سامحك الله ياحميد / سامحك الله ) .
|