يحترم الإسلام حرية الإنسان ويوليها اهتماماً كبيراً في تشريعاته وتعاليمه. فالحرية في رؤية الإسلام أمر مقدس لا يجوز المساس به، ولا يجوز للإنسان نفسه أن يفرط في حريته، وأن يتحول إلى عبد للآخرين، "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا".
ولا يجوز للآخرين أن يتعدوا على حرية الناس "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".
وليس هنالك تجزيء لحرية الإنسان، بل هي شاملة لكل جوانب حياته، فهي مكفولة في انتمائه الديني والمعتقد والتوجه، وهي مكفولة في سعيه الإقتصادي، بحيث استفاد الفقهاء من مجمل أحكام المعاملات، قاعدة عامة، اسمها قاعدة السلطنة "الناس مسلطون على أموالهم"، هكذا في كل أمر يناط تقريره بإرادة الإنسان نفسه.
ورغم اعتراف الإسلام بتلك الحرية بصورة لم تصل إليها الأديان ولا الحضارات الأخرى، إلا أن هنالك بعض الواجبات الشرعية التي قد يخالها الإنسان للوهلة الأولى متناقضة مع حرية الإنسان.
فقد يتساءل البعض أين تقع فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع ضمان الإسلام لحرية الإنسان؟! فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ظاهرة تدخل في حرية الآخرين، لأنك تأمر بشيء تركه الآخرون بحريتهم وإرادتهم، وتنهي عن شيءٍ فعلوه عن إرادة وتصميم وإلا لو كانوا مكرهين لما كان للأمر والنهي داع.
وحتى أضعف مراتب الأمر والنهي، تتضمن في حقيقتها اعتراض على ممارسة الآخر لحريته، فأول مراتب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب، وأما المرتبة الثانية وهي التغيير باللسان، والثالثة هي التغيير باليد وذلك لقول رسول الله (ص) "من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
فهذه المراتب الثلاث تدخُّل في حرية الآخرين وإرادتهم فكيف نفهم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في دائرة فهمنا لحرية الإنسان؟!
وضرورة هذا الفهم لإزالة حالة الغموض والالتباس التي نشأت عند البعض ممن تخلوا عن هذه الفريضة بسبب سوء فهمهم لها، وظنهم- ابتداء- أنها تتعارض مع حرية الآخرين.
فحينما تسأل بعض الناس لماذا لا تأمر بالمعروف، أو تنهي عن المنكر؟ فيكون الجواب ماذا نفعل فالناس يمارسون حريتهم؟ وحتى من يرتكبون المعاصي والمنكرات، عندما تأمرهم أو تنهاهم عن شيء يكون جوابهم، وما شأنك أنت؟ فأنا حر أعمل ما أشاء! وبعضهم يقول لك بلسان متجرئ: "إنك لن تحترق بناري، فدعني وشأني."وهذا من كلا الطرفين اشتباه وخلط كبير.. لماذا؟!
لأن حرية الإنسان لا معنى لها خارج دائرة الأحكام والفرائض الشرعية الأخرى، فكما يأمر الإسلام باحترام حرية الإنسان، فإنه أيضاً يأمر المكلفين بتطبيق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي واحدة من الفرائض التي لها أهمية ربما تزيد على الفرائض الأخرى كالصلاة والصيام والحج والزكاة..
وفي هذا يقول الإمام علي (ع) في كلمة مهمة ومعبرة: "وما أعمال البر كلها، والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي".
والنفثة هي ما يصحب التنفس من ريق الإنسان، وفي حديث آخر عنه (ع): "الأمر بالمعروف أفضل أعمال الخلق"، وفي حديث عن الإمام الباقر (ع): "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر".
أما هل يتناقض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع حرية الإنسان أم لا؟
الجواب: أنه لا تناقض ولا تعارض، وذلك لأن الإسلام يضع تلك الفريضة ضمن حدود وأبعاد لا تناقض حرية الإنسان، بل على العكس من ذلك فهي تكفلها، وتضمن سعادة الإنسان معها.. وهذه الحدود والأبعاد التي يتوخاها الإسلام من هذه الفريضة هي:
أولاً: الحرص على مصلحة الإنسان وفائدته:
فالأمر والنهي إنما يهدفان في الواقع تجنيب الإنسان العثرات، والأخطار المهلكة، التي قد يقع فيها، إن لم يحصل له تنبيه عليها، فإذا أمرت إنسانا يسير في الشارع أن ينتبه إلى حفرة في طريقة حتى لا يقع فيها، فذلك أمر من أجل مصلحته هو، حتى لا يقع فيها ويتأذى، فليس من المعقول حينئذ أن يرد عليك بأنه لا دخل لك في ذلك، وهكذا إذا نصحت إنساناً بتجنب أكل طعام مسموم، فليس صحيحاً أن يقول لك بأنني حر وأنه ليس لك أن تتدخل في شؤوني، لأنك إنما ترجو بذلك مصلحته، ولكن من حقه أن يطمئن لصحة أمرك أو نهيك، لا أن يرفض الأمر والنهي رأساً.
لأن الإسلام يريد لأفراده أن يعيشوا حالة متبادلة من الحرص على مصلحة الآخر، وأن تشيع في قلوب أبنائه محبتهم لبعضهم البعض، فيأمر أحدهم الآخر بما فيه مصلحته، أو ينهاه عما فيه مضرته "أحبب لأخيك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها" وذلك هو طريق الدعوة إلى الخير الذي يأمر الله أمة نبيه محمد (ص) أن يمتثلوه "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون".
|