روي عن المولى صاحب العصر الزمان (عليه السلام وعجّل الله فرجه)، نادبًا جدّه الإمام الحسين (عليه السلام): «بَرَزْنَ مِنَ الْخُدُورِ، نَاشِرَاتِ الشُّعُورِ عَلَى الْخُدُودِ لَاطِمَاتِ الْوُجُوهِ سَافِرَاتٍ، وَبِالْعَوِيلِ دَاعِيَاتٍ، وَبَعْدَ الْعِزِّ مُذَلَّلَاتٍ، وَإِلَى مَصْرَعِكَ مُبَادِرَاتٍ» ، ما قد يتوهّم أنّ عبارة: (نَاشِرَاتِ الشُّعُورِ)، لا تنسجم مع حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)؛ لتبادر فهمًا خاطئًا أنّ خروج النساء بهذا الوصف؛ أي: (نَاشِرَاتِ الشُّعُورِ عَلَى الْخُدُودِ لَاطِمَاتِ الْوُجُوهِ سَافِرَاتٍ)، صار أمام أنظار الأجانب من أفراد الجيش وغيرهم، والحال أنّ هذا الفهم غير صحيح ولا يمتّ للنصّ بصلة من جهتين:
الجهة الأولى: خروج النساء بهذا الوصف مجرّد وهم محض، ويمكن بيان ذلك بنقطتين:
النقطة الأولى: أنّ الإمام صاحب الأمر (عليه السلام)، قال: (بَرَزْنَ مِنَ الْخُدُورِ)، ولم يقل: (برزن من الخيام)، ومن الواضح أنّ الخدور شيء والخيام شيء آخر؛ لأنّ الخدر هو مكان يُخصّص للنساء في داخل الخيمة أو البيت تستر به المرأة حتّى من المحرم، وهذا أمر معروف عند العرب، وفي ذلك قال الخليل: «الخدر: ستر يمدّ للجارية في ناحية البيت» ، وعليه فظهور النساء بهذا الوصف حصل داخل الخدور أو الخيام.
النقطة الثانية: أنّ الإمام (عليه السلام)، قال: (بَرَزْنَ)، ولم يقل: (خَرَجْنَ)، والبروز هو «ظهور الشيء وبدوّه» ، ومنه يفهم: أنّ النساء ظهرن من الخدور ولم يخرجن منها أو من الخيام، ويمكن أن يتصوّر ظهور النساء من الخدور أمّا بالوقوف والنهوض من أماكنهنّ هذا في حال عدم استيعاب الخدر ستر تمام القامة أو بوقوفهن ذهولًا بباب الخدر من شدّة هول المصيبة، وقد يُتوهّم أيضًا أنّ مفردة: (سافرات)، الواردة في النصّ تعضد ذلك الفهم الخاطئ؛ لأنّها تُطلق في زماننا الحاضر على النساء غير المحجّبات والكاشفات الشعر، إلا أنّ ذلك أيضًا مجرّد وهم؛ لأنّ معنى سافرات عند العرب في ذلك الزمان لا يطلق على هذا المعنى وأنّما يدلّ فقط على المرأة كاشفة الوجه ، بل وبما تحمله مفردة: (سافرات)، يُؤكّد عدم خروج النساء من الخدور ناشرات الشعور وإلا لكان النصّ متهافتًا؛ لأنّ كشف الشعور ملازم لكشف الوجه والتعبير بهما معًا يصير لغوًا، كما توهّم مبادرة النسوة إلى المصرع بهذه الحالة (ناشرات الشعور)؛ لمجيء حرف العطف (الواو)، في النصّ (وَإِلَى مَصْرَعِكَ مُبَادِرَاتٍ)، مردود؛ لأنّ أقصى ما يدلّ عليه حرف العطف (الواو)، هو مطلق الجمع بين المتعاطفين ولا يتضمّن دلالة الترتيب أو التعقيب للمتعاطفين بل يمكن أن يأتي أحدهما قبل أو بعد الآخر بفترة زمنية أو بدونها .
الجهة الثانية: بيان سبب نشر الشعور، يتّضح من النصوص التاريخيّة والروائيّة أنّه جرت عادة نساء العرب عند المصائب والشدائد نشر شعورهنّ؛ لبيان عظيم المصيبة وذلك في مجالس النساء، والظاهر بعد مجيء الدين الإسلاميّ أقرّ هذه الظاهرة بشرط عدم البروز أمام الرجال الأجانب بل وظهرت حالة أخرى لعلّها لم تكن موجودة قبل الإسلام وهي: نشر المرأة شعرها في حال الدعاء للخلاص من مصيبة أو داهية عظيمة، وهذا الأمر مرويّ عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، فعندما خرجت السيّدة فاطمة (عليها السلام)، خلف أمير المؤمنين (عليه السلام)، «فقالت: يا أبا بكر، أتريد أن ترمّلني من زوجي؟ والله، لئن لم تكفّ عنه لأنشرنّ شعري ولأشقنّ جيبي ولآتينّ قبر أبي ولأصيحنّ إلى ربي، فأخذت بيد الحسن والحسين (عليهم السلام)، وخرجت تريد قبر النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال علي (عليه السلام)، لسلمان: أدرك ابنة محمد فانّي أرى جنبتي المدينة تكفيان، والله ان نشرت شعرها وشقّت جيبها وأتت قبر أبيها وصاحت إلى ربها لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها [وبمن فيها] فأدركها سلمان رضي الله عنه» .
كما يُفهم من النصّ: (بَرَزْنَ مِنَ الْخُدُورِ نَاشِرَاتِ الشُّعُورِ عَلَى الْخُدُودِ لَاطِمَاتِ الْوُجُوهِ سَافِرَاتٍ)، عدّة دلالات منها:
1. أنّ نشر الشعور قد حصل قبل قتل المولى أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)؛ أي: حينما كنّ النسوة داخل الخدور وقبل بروزهنّ، وهذا المعنى يُستفاد من دلالة اسم الفاعل: (ناشرات)، الوارد في قوله (عليه السلام): (بَرَزْنَ مِنَ الْخُدُورِ، نَاشِرَاتِ الشُّعُورِ)؛ لأنّ اسم الفاعل عندما يراد الإخبار به عن معنى حصل في الماضي فعندها تجب إضافته، وفي ذلك قيل: «إذا كان معناه ماضيًا لم يكادوا يقولون إلا بالإضافة... فإن أخبرت عن صوم يوم خميس ماض قلت: (أنا صائمُ يومِ الخميس)» .
2. بعد اتّضاح أهميّة نشر الشعر عند الدعاء في المصائب لا يبعُد أحد ما قام بتوجيه النساء بالدعاء والتضرّع إلى الله تعالى بهذه الكيفيّة (ناشرات الشعور)؛ لأنّ خروج كلّ النسوة ناشرات الشعور مصادفة ومن دون اتّفاق في غاية البعد، وبخاصّة أنّ النسوة كنّ بخيم متعدّدة وليس في خيمة واحدة ويستفاد ذلك بمجيء (الخدور)، بصيغة الجمع ولو كانت النسوة في خيمة لجاء بصيغة المفرد (الخدر).
يخلص من ذلك كلّه أنّ توهّم بروز النساء إلى خارج الخيام وهنّ كاشفات شعورهنّ أمر لا أساس له ولا يدلّ عليه النصّ بل هو مجرّد فهم قاصر .
|