في كل مسيرة، يشكّل منتصف الطريق لحظة فارقة: فرصة للتأمل، ومجالًا لإعادة التقييم قبل بلوغ الغايات. وفي مسيرة المشهد الثقافي السعودي، يبرز سؤال جوهري: ما الذي تحقق؟ وما الذي تأخر؟ وأين نقف اليوم؟ وما الذي ينبغي فعله لتكتمل الصورة وفق الطموح الثقافي لجيل اليوم وللأجيال القادمة؟
بين ما تحقق وما لم يتحقق، تأتي هذه القراءة الهادئة لمشهد الثقافة السعودية، في منتصف الطريق إلى رؤية 2030، لا للتهليل، ولا للتقريع، بل لفهم الصورة كاملة: أين نحن؟ وماذا نريد أن نكون؟
أولًا: نصف الطريق… ونصف الصورة
قبل سنوات قليلة، لم تكن الثقافة في السعودية تمثل قطاعًا فاعلًا في التنمية. الفنون كانت تُمارس في نطاقات ضيقة، والأنشطة الثقافية تقام غالبًا بمبادرات فردية، وسط غياب للإطار المؤسسي. ومع انطلاق رؤية 2030، بدأت الصورة تتبدل، ودخلت الثقافة دائرة الضوء.
لقد أُنشئت هيئات متخصصة، ونُظّمت مهرجانات نوعية، وظهرت فعاليات جديدة في الفضاء العام. أصبح للصوت الثقافي حضور، وللإبداع موقع على الخارطة، ربما لا يزال في طور التشكل، إلا أنّ بعض المنجزات يُعد لافتًا، وبعضها ما زال في طور النمو.
بدأت المملكة اليوم تحجز موقعًا ثقافيًا على المستوى الإقليمي والدولي، لا من باب التقليد، بل من بوابة التجدد والأصالة. ففي مجال التراث، سُجّلت مواقع سعودية في قائمة التراث العالمي لليونسكو، مثل: “حمى الثقافي” و“جدة التاريخية”، وهذا يصب في الذاكرة الجماعية، ويعد تسجيل نقطة. كما بدأ الزي السعودي التقليدي يُوثّق ويُحتفى به، لا كتذكار جامد، بل كهوية حقيقية: تُروى وتُلبس وتُحيا.
كل هذا ليس مجرد مظاهر، بل إشارات عميقة على تحوّل جذري قادم. لكنه، برغم هذا التألق، لا يزال السؤال المثير قائمًا: هل وصل الحراك الثقافي إلى بيتك؟ إلى قريتك الصغيرة؟ إلى ابنك الذي يخط أول قصة في دفتره؟ أم أنه ما يزال، في كثير من الأحيان، حبيس الصالات المغلقة والفعاليات الموسمية والأسوار الرسمية؟ هل تجاوز مركز المدينة إلى أطراف الوطن الواسع، أم لا يزال متقوقعًا في مراكز محددة فقط؟
ثانيًا: ثغرات ينبغي أن تُثار
١- الفعاليات الثقافية… لمن؟
الملاحظ أن أغلب الفعاليات الثقافية الكبرى تتركّز في مدينتَي الرياض وجدة. ورغم أهمية هاتين المدينتين، إلا أن بقية المناطق تبدو وكأنها خارج الخريطة وبدون حضور ثقافي. لنسأل: ماذا عن نجران، والجوف، وتبوك، والباحة، وجازان؟ أليست هذه المناطق تملك إرثًا ثقافيًا غنيًا، وإمكانات بشرية ومواهب مبدعة هائلة؟ هل نكتفي بأن تبقى متفرّجة على العرس الثقافي دون أن تشارك في الزفاف الكبير؟
٢- هل يصلك التمويل؟
الجميع يعرف أن حجم الدعم المخصص للثقافة مئات الملايين من الريالات سنويًا، لكن هل يصل هذا الدعم فعليًا إلى الفنان الصغير في أبها، أو الشاعر المبتدئ في قرية نائية؟ أم يظل محصورًا في من يعرف الطرق المختصرة إلى المؤسسات الكبرى؟ المنح والدعم ليست رفاهية، بل رافعة أساسية لاكتشاف المواهب الخفية في هذا الوطن العزيز.
٣- بين التراث والمعاصرة
لا يخفى أن الاحتفاء بالتراث جميل ومهم، غير أنّه لا ينبغي أن يكون هو حجر الأساس الوحيد. إنّ ما نخشاه هو أن يتحول هذا التراث من كونه مصدر إلهام إلى سقف يحدنا ويحاصرنا، فلا نستطيع التحليق.
نعم، هناك ما هو أعمق وأشد تأثيرًا في صُلب الثقافة من التراث وحده، لهذا نتساءل: أين إنتاج المعرفة؟ أين صناعة الكتاب وتعميق اللغة؟ أين تحفيز العقول على التساؤل والتفكير؟ الثقافة لا تُبنى بالاحتفال بالماضي فقط، بل بصناعة الوعي الجديد للأجيال.
٤- التعليم وسوق العمل
الخريجون من الجامعات في كل عام بالمئات من أقسام اللغات، الترجمة، الإعلام، التاريخ، الفلسفة، وعلم الاجتماع… تخصصات تُشكّل العمود الفقري لأي حراك ثقافي ناضج. لكن، بعد التخرج، كثير من هؤلاء لا يجد طريقًا واضحًا. لا برامج تؤهله، ولا فرص تستوعبه، وكأن ما تعلموه لا يجد صداه في الواقع.
والسؤال البسيط: إذا لم تحتضن وزارة الثقافة هذه العقول، فمن يفعل؟ هل يُعقل أن نُخرج أجيالًا تعرف كيف تفكر وتكتب وتترجم، ثم نتركها على الهامش؟ المشاريع الثقافية لا تنهض بالمهرجانات وحدها، بل بمن يكتب لها ويخطط ويقيم أثرها. فهل نرى يومًا هؤلاء الخريجين في قلب المشهد، لا خارجه؟
٥- منصة “أبدع”… لماذا لا تُبدع؟
عندما أُطلقت منصة “أبدع” لتسهيل التراخيص للمبادرات والفعاليات الثقافية، بدا الأمر كأنه نقلة منتظرة، تُخرج المبدعين من طوابير الانتظار الورقي إلى بوابة رقمية سريعة وواضحة. اسم المنصة وحده يكفي لإشعال الحماسة.
لكن الملاحظ أن الإجراءات تطول، والموافقات تتأخر حتى تفوت الفرص وتتحطم الآمال. هل المشكلة في التقنية؟ أم في طريقة الإدارة؟ هل نمتلك ثقافة التسهيل أم التعطيل؟ الإبداع لا ينتظر طويلًا، والمبدع إذا طالت به الوقفة، طوى فكرته ومضى. فهل تنطلق المنصة؟ أم تظل منصة “أبدع”… لا تُبدع؟
٦- مشاريع تبدأ… ثم تُنسى
كثير من المشاريع الثقافية تبدأ باحتفال لافت، وشريط أحمر يُقصّ، وكأن الافتتاح نهاية المطاف، لا بدايته. لكن، أين المتابعة بعد ذلك؟ المتاحف، المراكز، المبادرات المجتمعية… بعضها لمع للحظة، ثم خفت. لماذا لا نشاهد خطة استدامة، وجداول متابعة، وقياسًا حقيقيًا للأثر؟
الافتتاح إذا لم يتبعه اكتمال، فهو لم يكتمل أصلًا. وما لم تُزرع الثقافة في الحياة اليومية، ستبقى بعض المشاريع مجرد صور أرشيفية معلقة على جدار الإنجاز… لا أكثر.
٧- الشراكات المجتمعية المغيبة
هل الثقافة مسؤولية جهة محددة؟ أم مسؤولية الجميع؟ لهذا جرى الحديث عن الشراكات، باعتبار أن الثقافة لا تُدار من فوق فقط، بل تنبت من التربة، كحقل الزهور.
كثير من الجهود المجتمعية تُقصى بهدوء، أو تُعامل وكأنها عشوائية، في حين أنها الأقرب للناس، والأصدق تعبيرًا عن نبضهم. إن دور المراكز الثقافية ليس اقتلاع البذور واستبدالها، بل رعايتها حتى تنمو. فإذا لم تتسع الدائرة لتشمل الجميع، ستبقى الثقافة مشهدًا فوقيًّا، بعيدًا عن واقع الحياة.
٨- أين أدوات القياس؟
ما معيار النجاح الثقافي لدينا؟ عدد الفعاليات؟ عدد الحضور؟ قد تبعث الأرقام على الرضا، لكنها لا تكشف الصورة الكاملة. التأثير الثقافي لا يُقاس بالكاميرات وعدد المقاعد المشغولة فقط.
بل بالوعي المتغير، والإقبال على الكتاب، وتأثير الفعاليات في الذائقة والسلوك. نحتاج إلى أدوات تقيس ما لا يُرى بالأرقام فقط، أدوات تكشف العمق لا القشرة. فالثقافة التي لا تغيّر الناس، لا تغيّر شيئًا.
ثالثًا: من “المركز” إلى “العمق”
الحل لا يكون بمزيد من الميزانيات فقط، بل بإرادة طموحة، واستماع فعلي، وقرارات تنطلق من الميدان لا من المكاتب. فماذا لو:
• خُصص جزء أكبر من الدعم للمحافظات الصغيرة لمشاريع دائمة لا موسمية؟
• فُتحت بوابات الدعم للمبدعين الأفراد والجمعيات الصغيرة، لا فقط للمؤسسات الكبرى؟
• سُرّعت التراخيص، وقُلّصت العقبات، لتكون الثقافة فعلًا مساحة حرة للإبداع؟
• جُدّدت المناهج الثقافية لتشمل الإبداع السعودي المعاصر، لا التراث فقط؟
ختام: الثقافة فعالية أم حياة؟
الثقافة ليست حفلًا صاخبًا، ولا بيانًا صحفيًا، ولا مهرجانًا يُنسى بعد أيام. الثقافة هي الحكاية التي ترويها جدة لأحفادها، هي القصيدة التي تُكتب في زقاق بالهفوف، هي اللوحة التي تُرسم على جدار في أبها، هي جلسة شعر في سكاكا، هي لقاء يجمع جيلين في ديوانية صغيرة.
الثقافة ليست للخواص، بل للجميع. وإن لم تصل إلى الناس ووجدانهم وأبنائهم، فهي لم تبدأ بعد. ولهذا، فالتحول الثقافي الذي نرجوه لا يُقاس بعدد الفعاليات، بل بنوع التأثير. لا بـ “كم المشاريع”، بل بـ “كيف تُغيّر المجتمع”. الثقافة التي لا تُلامس كل بيت، لا تزال في منتصف الطريق. ولحسن الحظ، لا يزال أمامنا وقت لإحداث التغيير.فهل وصلت الثقافة إلى حيث تسكن؟ هل طرقت باب بيتك؟ إن لم تفعل بعد… فهذه فرصتنا لنُغيّر الواقع نحو الأفضل.
|