الجزء الثالث.
_______
الضلع القائم الثاني: أولوية الإسماع على الإقناع.
* إذا فهمنا الوظيفة الكبرى للمنبر، فدعونا نتساءل: كيف له أن يحقق هذه الوظيفة؟ وبأي خطاب ينجز هذه المهمة؟
بعبارة أخرى، نحن هنا لا نبحث عن خطاب يحقق مكاسب آنية أو تحشيد مؤقت للجمهور، أو تعبئة مرحلية للمعنويات، فحسب.
بل نبحث عن أبعد من ذلك، عن خطاب مرتبط بمصير الإنسان وحياته حتى رحيله عن هذه الدنيا إلى لقاء ربه.
فيجب أن يكون الخطاب بمستوى هذا الطريق الأبدي، خطاباً صالحاً لكل زمان ومكان، ويستطيع كل فرد منا أن يتمثله ويستمد منه عند المواقف الصعبة، واللحظات الفارقة في حياته، وخطاب كهذا لا يكون إلا خطاب الوحي، أي الثقلين، الكتاب والعترة.
ولقد رأينا وسمعنا الكثير من الناس، يحفظ الآية أو الرواية لمدة خمسين سنة ، ولكنه لا يفهم عمقها، ولا يشعر بأبعادها الحقيقية، إلا في مواجهة لحظة حاسمة في عمره، وما أكثر من قالوا عندها (كأني قرأتها للمرة الأولى).
وأما توظيف طاقة المنبر الحسيني في التحشيد المؤقت، والتعبئة المرحلية، وعرض الأمور بمسمياتها، فلا تجد عارفاً بالزمان وأهله، ينكر إمكانية احتياجنا إليه في وقت من الأوقات، وحتى أشد الخطباء الكبار تحفظاً على صورة المنبر وحرصاً عليه، لن تجد منهم من يقول لك أن الدخول في التطبيقات والمسميات مرفوض بشكل مطلق، وغاية ما يطلبونه أن نتأكد من كون هذا الدخول يخدم ذلك الأفق الغائي، ولا يقيد شمولية هذا الخطاب الوحياني، كما ستعرف بعد قليل.
ومن هنا دعونا نعيد صياغة الفكرة بسؤال: أيهما أولى بالمنبر، أن يمارس عملية الإسماع أم عملية الإقناع ؟ ولنشرح معناهما:
فالإسماع: أعني به أن يركز الخطيب على إيصال كلام أهل البيت عليهم السلام للناس، ويسمعهم هذه الأحاديث النورانية بأوضح صورة ممكنة، من حيث شرح معناه، وذكر الظروف التي قيل فيها هذا الكلام، بحيث نتأكد من فهم الجمهور لمعنى الحديث بشكل كاف.
والإقناع، هو محاولة إضافة شيء من إسقاطات الخطيب وقناعاته على الحديث، بتلميح لمصداق معاصر، أو إشارة إلى جهة قائمة، أو ضرب مثال شاخص، بحيث يقنع الناس بالتركيز على الجانب الذي يريده، عاجزين عن التشبع بالدلالة الكافية للنص.
كمثال مختصر: لو قرأ الخطيب في ليلة أصحاب الحسين عليه السلام بعضاً من أوصافهم رضوان الله عليهم، كقول سيد الشهداء عليه السلام: (أما بعد فاني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي...) ، وقوله عليه السلام: (ليس فيهم إلا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل بلبن أمه).
فالإسماع، أن يقرأ الخطيب هذا النص، ويبذل جهده في بيان مقام أصحاب الحسين، وكيف وصلوا إلى هذا المقام، ليجعل السامع يدرك تماماً أن الوصول إلى منزلة (بأبي أنتم وأمي) جاء بالإخلاص، وتمييز الحق عن الباطل، وبذل الجهد والتضحية.
وإن أراد الخطيب إضافة لمسة تشد المستمعين إلى المحاضرة، وأشار في حديثه إلى الوقت الحاضر، فسوف يحذر الجمهور من خداع الطغاة وأدواتهم للناس في هذا الزمن، وما يمارسونه من تزييف الحقائق، ودفع الناس للتمسك بالحياة المادية على حساب الآخرة، وتخذيلهم عن الموت في سبيل الله، وهي كلها اختبارات تعرض لها أصحاب الحسين عليه السلام ونجحوا فيها، ومن يسلك نهجهم يجب أن ينجح فيها.
إلى هنا فهذا كله يقع في نوع (الإسماع) وينتهي عنده دور الخطيب، تاركاً للناس اختيار طريقها وتشخيص الجهة التي تتوفر فيها هذه القيم، بحسب قناعة كل فرد، من حضور المجلس الحسيني.
وهكذا يبقى المنبر في مأمن من الدخول في التصنيفات ومواجهة تنوع الأراء والمزاجات.
ولكن والإقناع: أن لا يكتفي الخطيب بهذه التوضيحات أعلاه، بل يتصدى لتسمية الجهات التي يعتقد أن نصرتها تجعل الإنسان على طريق أنصار الحسين عليه السلام، كالحشد الشعبي في العراق، أو الحرس الثوري في إيران، أو حزب الله في لبنان.
هنا سيكون الخطيب أمام طريقين: إما أن يشير إلى ذلك بمجرد ذكر الأسماء دون إقامة الدليل على أن هذه الأسماء هي امتداد لأصحاب الحسين عليه السلام، أو يبذل جهده في إقامة الدليل على ذلك، وعندها سيقسم الجمهور (فليس كل الشيعة على قناعة واحدة) ويفقد تفاعل الكثيرين، ويحول مسار محاضرته من توضيح كلام الثقلين إلى إثبات وجهة نظره.
هذا هو الفرق بين الإسماع والإقناع، والناس لها وجهات نظر مختلفة، وليس من حق أحد سلب صفة التشيع عن الجمهور الحسيني الذي لا يعجبه هذا الطرح.
هذا شأن الناس وهم فيه أحرار، أما المنبر فيجب أن يبقى بعيداً عن بورصة الصراعات، ليعيش حالة من الثبات والاستقرار والجامعية للناس، لأنه مسؤول عن شرح الدلالة الثابتة للكلمة الحسينية، ولا شأن له بتوظيف الناس لها، ومجادلة بعضهم باستخدامها، ويلزمه التحفظ عن تقديم التفسيرات الساذجة والانفعالية، التي يحب الناس تلقيها كالمعلبات والأطباق الجاهزة، لأنك بقدر ما تعجب فئة من الناس، ستثير حفيظة أخرى.
* علينا أن نثق بفاعلية كلام أهل البيت عليهم السلام في صناعة الإنسان وصياغة موقفه الصحيح، أكثر من ثقتنا بتصوراتنا وتطبيقاتنا السياقية، ولو تركنا لسحر كلامهم أثره في صناعة النفوس، وقدرته على محاكاة مختلف الظروف والنفسيات، لزالت الكثير من شوائب الاختلاف، وهو معنى (كلامكم نور وأمركم رشد)، فلماذا نفترض أنه بحاجة إلى زيادة منا، وإضافات نراها مناسبة في تفسيره وتوجيهه.
بل على العكس تماماً، سيكون لإضافاتنا التي نقدمها أثراً سلبياً، لأنها تحبس هذا الخطاب الشامل في فترة زمنية محددة أو حالة معينة، وتتركه مرتهناً لمستوى تفكيرنا ومرحلتنا الزمنية وظروفنا التي نعيشها.
* وعلى أساس هذه الفلسفة في مخاطبة النص الديني للانسان، جرت أيضاً الصياغة الفنية للدعاء، فتخيل معي -مثلاً- قول أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء كميل (اللهم أغفر لي الذنوب التي تهتك العصم) فإن جميع أصحاب الذنوب يشعرون بأنهم معنيون بهذا الدعاء، بينما لو قال (اللهم أغفر لي نظرة الحرام التي تهتك العصم) فلا شك لن يتفاعل المغتاب والسارق مع هذه الفقرة لأنها لا تعنيه.
* وخلاصة الفكرة في هذا الضلع من المثلث: لن أقول لك أن تبقى محبوساً في قفص النص، كما لن أقول حلق بعيداً عنه، إنما أقول، حلق حوله ولا تبتعد، فمن فارقه أتكل على فهمه، ومن أتكل على فهمه ضاع في المتاهات.
وتذكر أن هناك أمراً طريفاً يتعلق بالمنبر، وهو أن شدة ارتباطه بكلام المعصوم منعكسة حتى على افتتاحية المجلس، التي هي تجميع من كلماتهم عليهم السلام! ولم يتم اختراعها.
فقول الخطيب (صلى الله عليك يا أبا عبد الله صلى الله عليك يبن رسول الله) مأخوذ من كلمات زيارة الحسين عن ولده الصادق عليهما السلام.
وقوله: (يا عبرة المؤمنين...) جاء من قول أمير المؤمنين لولده الحسين عليهما السلام (يا عبرة كل مؤمن).
وقوله: (يا رحمة الله الواسعة، ويا باب نجاة الأمة) الشطر الثاني منها مأخوذ عن حديث طويل للنبي الأكرم يصف ولده الحسين صلى الله عليهما وآلهما.
وقوله: (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيما) مأخوذ من زيارة أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام.
وفي هذا دلالة كافية لك أيها القارئ، حول جذور تكوين هذا المنبر، وغاياته، وكونه لوحظ في تأسيسه أن يكون المنبر الوحيد والأصيل لنشر كلام أهل البيت عليهم السلام.
وإلى هنا تم بيان الضلع الثاني، وعرفنا أن السبيل الأفضل نحو خطاب منبري يحقق لنا غاية الوجود وبناء الإنسان هو أن نُسمع الناس كلام القرآن وأهل البيت عليهم السلام، ونجعلهم على بصيرة كافية بسيرة المعصوم، ونترك لكل فرد منهم معايشة موقفه الخاص، وصناعة استعداده الذاتي وأرضيته المناسبة للامتثال لفتوى الفقيه الذي يقلده، دون أن نفرض عليه قناعتنا بهذا المصداق وذاك التطبيق.
إذاً، فما صنعناه في الضلعين الأول والثاني هو التأسيس للأصل الذي يجب أن يلتزمه الخطاب المنبري، والقاعدة الأولية له، وحيث أن المشهور أن لكل قاعدة استثناء، فسوف نخصص الحديث في الضلع الثالث لهذا الاستثناء، الذي يمكن فيه للخطيب أن يذكر بعض الأحداث المعاصرة والأسماء الصريحة ويربطها بحديثه المنبري.
وقبل أن نغادر الضلع الثاني، لعلك تسأل، هل يوجد دليل على (أولوية الإسماع على الإقناع) وأقول لك نعم توجد روايات كثيرة سيشرفني نقل بعضها كملحق لهذا المقال الذي أصبح طويلاً -كالعادة- ولكن بعد استكمال الضلع الثالث.
يتبع.
|