يعتمد الوسط العربي على النقل الشفاهي في تداول الصيغة الخبرية أكثر منه اعتمادا على الصيغة التدوينية، في عصر بات التعامل فيه مع الصيغة التدوينية أمرا ملحّا من خلال التواصل بين ألوان الإنسانية كافة، وقد يجد هذا التفاوت مساحة تبرير له جرّاء ما تمارسه السلطة الكامنة وراء وسائل الإعلام العربي من إنحياز واضح إلى جهة على حساب أخرى، فهي ـ وسائل الإعلام العربي ـ غالبا ما تمثل الجهات السلطوية، وهي بهذا أبعد ما تكون عن الوسط الشعبي في تمثيله وتحقيق رغباته وإيصال صوته، أو الوصول به إلى الحقيقة.
العراق كان واحدا من تلك البؤر العربية التي تعتمد على هذه الوسائل الاحادية الجانب في التواصل مع الفرد المحلي، ولايخفى كم أُستغلت هذه الوسائل للمصلحة الشخصية على حساب المجموع، فجاء طابور الترويج للدعاية الحكومية، من قبيل الترهيب والترغيب وبث الدعايات الخاصة وما إلى ذلك، وبات الخبر مشوّها منقوصا لم تكتمل رؤياه حتى بوجود المساند الصحيحة في نقله، وهذا ما أفقد أرضية المصداقية بين قاعدتي التلقي والإرسال.
وما حدث بعد تغيير النظام في العراق من توسعة واضحة على مستوى الرقعة الإعلامية الصحفية، والتعدد الملموس للصحف والمجلات والقنوات الفضائية والإذاعية، ما هو إلا دليل حيوي في محاولة لإحتواء العجز والتركة الثقيلة التي خلفتها ممارسات القمع التي كان ينتهجها النظام الفاشي السابق، ولكن هذا الأخير، افتقر إلى شقين مهمين، أولهما المهنية في التعامل الإعلامي، والآخر المصداقية المتوخاة في كل عمل إعلامي، فانساق عبر الإستغلالية الخاصة لتحقيق بعض المكاسب الشخصية، ولعدم مصداقيته زاد الطين بله، فقد سعت بعض الأقلام إلى بلورة لعبة الأكاذيب، من خلال سياق النص الخبري، او التحقيقي وما إلى ذلك من الأساليب التدوينية، التي وصلت إلى المواطن ولعبت لعبتها في تشويه الحقيقة.
ويبقى على المشتغلين في جميع الحقول الثقافية والإعلامية، النظر صوب العلاقتين، إذ لايخفى ان حتى النقل الشفاهي عليه ان يمتاز بواقع التطابق لا الإختلاف بينه وبين التدوين، وان لايكون مغايرا متذبذبا، وهي بداية صحيحة لصنع أرضية المصداق بين ما قيل وما هو مكتوب.
وهنا يكمن العمل الجاد على بلورة مساحة حوار لإعادة هيكلة الثقة بين قطبي التلقي والتدوين، وفي خضم غمار الإنفتاح الكتابي العالمي اليوم، نحن بحاجة الى وقفة مدروسة وخطوات متأنية لصنع خطاب تدويني حقيقي، ذلك ان النص التدويني يحتفظ بالحقيقة لمدى أبعد مقارنة بالنقل والثقافة الشفاهية، وهذا يبدو جليا في التاريخ الإنساني القديم، ففي المكان الذي كان فيه النقل الشفاهي معمولا به لم يصلنا من ذلك الزمن إلا ما كان مشكوكا فيه، في حين أن الكتابة على جدران الكهوف باتت أمرا يقينيا، وإن تقادم عليها الزمان، أو اختلفت رؤاها السياسية الآنية التي كانت تتحكم بمجريات تلك الحقبة.
|