في مشهد تراجيدي، مفرحاً ومحزناً، مملوءاً بالتعابير والأوصاف الجميلة. تخرج الشاب (الحيدر) من الكلية العسكرية برتبة (ملازم). توجه بعد الاستعراض وترديد قسم التخرج وتلاوة المرسوم الجمهوري الى حدائق تواجد المهنئين من أولياء أمور الخريجين– الآباء والأمهات- ومن حضر لمشاركتهم أفراحهم، ليستقبلوهم بالأهازيج ونثر الحلوى ( الجكليت) فوق رؤوسهم مصحوبة بالهلاهل والرقص على أنغام الفرق الموسيقية الشعبية المنتشرة في الساحة. كان المفروض أن يكون أول المهنئين والفرحين له (الوالدين ) .
ولكن بقي ( الحيدر) عند نهاية الممرينظر الى السماء، متلفتاً يميناً ويساراً، ليبحث عن والديه بين جموع المتواجدين ، وهنا استحضر أفكاره، ونزلت دموعه على خديه، إذ ؛ تذكر، بأنهم قد رحلوا الى الرفيق الأعلى منذ سنوات عدة ، لأن مشيئة الله كانت أكبر وأعظم، وتذكر قوله الكريم: أنا لله وإنا إليه راجعون ، ويدعون لهم بالقول: رحمهم الله - غفر الله لهم ذنوبهم - وأدخلهم فسيح جناته .
في هذه اللحظات، ونحن نراقب الحيدر، فقد امتزجت دموع فرحه مع ذكريات الحزن وفقدان الوالدين وهو يرى غيابهما عن تقبيله وحضنه بصدورهم له، أسوة ، بما يشاهده برفاقه الخريجون واستقبال عوائلهم له.
إن الله – وتعالى- لا ينسى اليتيم، فقد كان من ينوب عنهم، وبدأت الابتسامة تعود له، عندما شاهد أعمامه وأخويه، وأبناء عمومته، ليعوضوا له ذلك الفقدان ، وليشاركوا ابنهم فرحته. لقد كانوا له السند الكبير في الدعم والتشجيع الى أن ما وصل إليه ، وهي ليست منةً من أحد، بل واجب مقدس، ومن أفضل الأعمال التي تقربهم الى الله – سبحانه وتعالى- في دعم - ابن أخيهم- ليشق طريقه ومستقبله .
يعد فقدان الوالدين من التجارب المؤلمة والصعبة ، حيث يترك فراغاً كبيراً في حياة الأبناء، ويسبب حزناً عميقاً وألماً نفسياً ، يؤثر على مختلف جوانب الحياة. كلّما قسى الزمان ، وتعاظمت الهموم والمشاكل، ولم نجد أحداً يحنو علينا مثل الوالدين . يردد اليتيم القول : أبي - أمّي؛ لم يجف لساني عن ترديد كل الأدعية إليكما، أعلم أنّك ستفرحون جداً بتخرجي اليوم، وتتمنون رؤيتي وأنا أحمل رتبة ملازم على كتفي، سأظل أدعو لكِما ، لن أنساكِم أبدا، الى أن يجمعني الله بكما في الجنّة.
لقد كان لنا سنة حسنة في نبينا محمد (ص) في شق طريق حياته، عندما توفي والداه وهو طفل صغير، فتولى من راعاه: جده عبد المطلب ، ثم، عمه أبا طالب، وتقبل الحياة بحلاوتها ومرارتها، الى أن بعثه الله - سبحانه وتعالى - نبياً الى البشرية جمعاء. ولنتذكر، قوله تعالى: ( ألم يجدك يتيماً فآوى ) . ( الضحى: 6) ، وقوله تعالى: ( فأما اليتيم فلا تقهر). (الضحى: 9).
من هذه التجربة المفرحة المحزنة، نستفاد دروساً، بأن فقدان الوالدين؛ يجب ألا يكون سبباً في تشرد الأبناء أو ترك الدراسة أو التوجه الى الأماكن المظلمة . أن الحياة لا تتوقف بوفاة الوالدين، لمن أراد أن يرسم مستقبله ، بل تزيد عزماً وإصراراً عن هذا تعويض الوالدين، قال الله - سبحانه وتعالى- ( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن ، وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك الي المصير) . (سورة لقمان : 14) .
|