المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله عليه محمد وآله الطاهرين
اولاً: بيان الموضوع
يتناول هذا البحث مفهوم "تسنيم" كما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة لأهل البيت (عليهم السلام). يُعدّ "تسنيم" أحد أشربة الجنة، وقد خصه الله تعالى بالمقربين من عباده، وفي ذات الوقت، يُمزج لغيرهم من أهل الجنة. إنّ البحث في هذا المصطلح لا يقتصر على كونه وصفاً لنعيمٍ أخروي محض، بل يتعداه إلى كشف دلالات عميقة تتعلق بمراتب الإيمان، ومقامات الولاية، والجزاء الأوفى للسابقين المقربين، الذين هم في طليعة هذه الأمة، محمد وآل محمد (صلى الله عليه وعليهم أجمعين).
ثانياً: الإشكالية
تكمن الإشكالية في فهم الأبعاد المتعددة لمعنى "تسنيم". فهل هو مجرد عين ماء تتفجر في الجنة؟ أم هو اسم يحمل دلالات رمزية وعمقاً في بيان درجات القرب الإلهي؟ وكيف يتجلى هذا المعنى القرآني في الروايات الشريفة، بخاصة تلك الواردة عن أئمة الهدى (عليهم السلام)؟ وما هو الرابط بين الوصف اللغوي للكلمة وبين دلالاتها العقدية والجزائية؟ وهل يشرب المقربون من هذه العين صرفاً، بينما يُشرب غيرهم ممزوجاً، وما هو المغزى من هذا التمييز؟
ثالثاً: أسئلة البحث
ما هو المعنى اللغوي لكلمة "تسنيم" في معاجم اللغة العربية؟
كيف وصَف القرآن الكريم "تسنيم" في سورة المطففين؟
من هم "المقربون" الذين خُصّوا بشرب "تسنيم" بحسب الروايات الشريفة عن أهل البيت (عليهم السلام)؟
ما هي دلالة شرب "تسنيم" صرفاً للمقربين وممزوجاً لغيرهم؟
ما هو العلاقة بين "تسنيم" وبين مفاهيم مثل "الكوثر" و"طوبى" الواردة في الأحاديث الشريفة؟
رابعاً: أهمية البحث
تكمن أهمية هذا البحث في كونه يسلط الضوء على جانب من جوانب النعيم الأخروي الذي يترجم درجات القرب الإلهي والولاء لأهل البيت (عليهم السلام). إنّ فهم "تسنيم" كشراب للمقربين يُعزز من مفهوم المراتب الروحية في الآخرة، ويُحفز المؤمنين على الارتقاء في درجات الطاعة والعبودية والولاء. كما أنه يُسهم في إبراز المنزلة الرفيعة لمحمد وآل محمد (صلى الله عليه وعليهم أجمعين) كنموذج أسمى للمقربين من الله تعالى، مما يُعمّق الارتباط بهم والاقتداء بسيرتهم.
خامساً: أهداف البحث
تبيان الدلالة اللغوية لكلمة "تسنيم" بالاعتماد على المصادر اللغوية المعتبرة.
تحليل الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر "تسنيم" لبيان المعنى القرآني.
جمع وتصنيف الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) التي تُفسر "تسنيم" وتُبيّن منزلة المقربين.
استخلاص الدلالات العقدية والمعنوية لتمييز شراب "تسنيم" بين الصرف والممزوج.
الربط بين مفهوم "تسنيم" وبعض مصطلحات النعيم الأخرى في الجنة لبيان التكامل الديني.
1. تسنيم في معاجم اللغة القديمة: الجذر والمعنى
للولوج إلى عمق المعنى القرآني والحديثي لـ"تسنيم"، لا بد من إطلالة على دلالتها اللغوية الجذرية. كلمة "تسنيم" مصدر للفعل "سَنَّمَ" (من السَّنَم)، وهو ما علا وارتفع.
إنّ كلمة "تسنيم"، وهي على وزن "تفعيل" من مادّة (سَنَمَ)، تحمل في أصلها اللغوي دلالة العلو والارتفاع. هذا ما نصّ عليه أئمة اللغة، ومنهم صاحب "مقاييس اللغة"، ابن فارس. فـ"السَّنَم" هو كل ما علا وارتفع من شيء، ومنه "سَنام البعير"؛ وهو أعلى جزءٍ في ظهره. ولم تقف دلالة هذه المادة عند هذا الحد، بل اتسعت لتشمل كل ما ارتقى وارتفع، كـ"ألسنة النار" الشاهقة، و"الغيوم المرتفعة" في جو السماء، و"الدخان" المتصاعد، بل وحتى "سنابل النباتات" حين تكتمل وتشمخ. هذا الاستقراء اللغوي يُفضي بنا إلى نتيجةٍ محكمة: أن "تسنيم" كامنةٌ فيه فكرة السمو والارتفاع في كل تجلياتها.
وبناءً على هذا الأصل اللغوي، فإنّ "عين التسنيم" في الجنة لا تُشير إلى مجرد نبعٍ ماءٍ عادي، بل هي عينٌ تُمثّل سبباً للارتفاع والعلو بحد ذاتها. فالفعل "سنَّمه" يعني رفعه، ومنه سَنَام الإبل كما أسلفنا. وإذا ما تجلى هذا المعنى في سياق النعيم الأخروي، فإنّه يُشير إلى أنّ المقربين حين يشربون من هذه العين، فإنهم يتقرّبون من المقام الإلهي والفناء في نور الحق أكثر فأكثر.
2. تسنيم في النص القرآني: نعيمٌ خاصٌ بالمقربين
ورد ذكر "تسنيم" في سورة المطففين، ضمن سياق وصف نعيم الأبرار والمقربين. يقول تعالى:
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ [المطففين: 22-28]
تُبيّن هذه الآيات أن "تسنيم" ليس مجرد شرابٍ عام لأهل الجنة، بل هو مزيجٌ لرحيق الأبرار، بينما هو عينٌ يشرب بها المقربون مباشرةً. هذا التمييز القرآني يُشير بوضوح إلى:
الخصوصية والاصطفاء: "تسنيم" هو شرابٌ يُبرز مقاماً رفيعاً، ويُخص به فئة معينة من أهل الجنة.
درجات النعيم: الجنة ليست درجة واحدة، بل فيها مراتب ونعم متفاوتة، و"تسنيم" يُعدّ من أرفع هذه النعم.
الاستحقاق للقرب: هذا الشراب ليس جزاءً عشوائياً، بل هو نتيجة لدرجة عالية من القرب والتقوى والسبق في الخير.
3. المقربون: محمد وآل محمد (صلى الله عليه وعليهم) في وصف الحديث الشريف
الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تُضيء لنا من هم هؤلاء المقربون الذين خُصّوا بـ"تسنيم" صرفاً:
روى محمد بن العباس (رحمه الله) بسنده عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، عن أبيه علي بن الحسين (عليه السلام)، عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه)، عن النبي (صلى الله عليه وآله) في قوله تعالى: ﴿وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ﴾ قال: "هو أشرف شراب في الجنة يشربه محمد وآل محمد، وهم المقربون السابقون: رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب والأئمة وفاطمة وخديجة" (تفسير أبي حمزة الثمالي، ص 357، حديث 367).
ويُؤكد هذا المعنى حديثٌ آخر رواه الحاكم الحسكاني بسنده عن أبي حمزة، عن أبي جعفر، عن أبيه علي بن الحسين، عن جابر بن عبد الله، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله تعالى: ﴿وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ﴾ قال: "هو أشرف شراب الجنة يشربه آل محمد، وهم المقربون السابقون: رسول الله وعلي بن أبي طالب وخديجة وذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان" (تفسير أبي حمزة الثمالي، ص 357، حديث 368).
وهذا يتوافق مع ما رواه المجلسي في "البحار" عن الحسن بن سليمان في كتاب "المختصر" بإسناده عن أبي الورد عن الإمام الصادق (عليه السّلام) قال: "تسنيم أشرف شراب أهل الجنّة يشربه محمّد وآل محمّد صرفا، ويمزج لأصحاب اليمين ولسائر أهل الجنّة" (بحار الأنوار، ج 24، ص 266، الحديث 29. وهو مروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أيضاً في تفسير القمي، سورة التطفيف).
من هذه الروايات يتضح جلياً أن:
محمد وآل محمد (صلى الله عليه وعليهم أجمعين) هم المقربون والسابقون الذين خصهم الله بهذا الشرف العظيم.
"تسنيم" هو أشرف شراب أهل الجنة، مما يؤكد علو مقامهم ورفعة منزلتهم.
المقربون يشربون "تسنيم" صرفاً وبحتاً، بينما يُشرب لأصحاب اليمين (وهم الأبرار) ولسائر أهل الجنة ممزوجاً. هذا التمييز يُجسد الفارق في الدرجات والمقامات، فكلما كان القرب أشد، كان النعيم أصفى وأجود.
4. دلالة الشرب الصرف والممزوج: مراتب القرب الإلهي
ان الفارق بين الشرب "صرفاً" و"ممزوجاً" ليس مجرد تفصيل مادي في نعيم الجنة، بل هو دلالة عميقة على تفاوت مراتب القرب الإلهي والإخلاص في العبودية.
الشرب الصرف (بحتاً): يُشير إلى النقاء المطلق والصفاء الكامل في العلاقة بالله تعالى، وهو ما يتمتع به المقربون من محمد وآل محمد (صلى الله عليه وعليهم). هؤلاء بلغوا أقصى درجات الإخلاص والطاعة، ولم تشبهم شائبة في سيرتهم وعبادتهم وجهادهم. فكان جزاؤهم خالصاً كخلوص نيتهم وعملهم. هذا الصرف يُشير إلى الوصل الأتم والاتصال الكامل بالله تعالى دون حجاب أو واسطة في درجة النعيم.
الشرب الممزوج: يُشير إلى أن الأبرار وأصحاب اليمين، وإن كانوا من أهل الجنة، إلا أن درجتهم أقل من المقربين. فشرابهم يُخلط بـ"تسنيم" كجزء من النعيم، وليس هو الشراب الأصيل الخالص الذي يُخص به المقربون. هذا لا يُنقص من نعيمهم، بل يُبرز علو مقام المقربين، الذين اختارهم الله تعالى لنقاء سريرتهم وعظيم تضحياتهم.
إنّ هذا التمييز يُعلمنا أن درجات الآخرة تُبنى على درجات التقوى والقرب في الدنيا. فكلما ازداد الإنسان تقرباً وطاعةً وخدمةً لدين الله وولاءً لأوليائه، كلما ارتفعت درجته في الجنة ونال من نعيمها الصافي ما لم ينله غيره.
5. تسنيم والكوثر وطوبى: التكامل في نعيم الجنة
لا يمكن الحديث عن "تسنيم" بمعزل عن بعض المفاهيم الأخرى لنعيم الجنة التي وردت في الروايات الشريفة، مثل "الكوثر" و"طوبى". هذه المفاهيم تُشكل معاً لوحةً متكاملةً لنعيم أهل الجنة.
تسنيم والكوثر:
الكوثر نهرٌ في الجنة خُصّ به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وقد ورد في حديث الأربعمائة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (آداب أمير المؤمنين (عليه السلام)، ص 173): "حوضنا مترع فيه مثعبان يصبّان من الجنّة أحدهما من تسنيم، والآخر من معين على حافّتيه الزعفران وحصاه اللؤلؤ والياقوت وهو الكوثر". (مسند أبي بصير، ج 1، ص 155، آداب أمير المؤمنين (عليه السلام) (حديث الأربعمائة)، ص 173).
هذا الحديث يُبيّن علاقة مباشرة بين الكوثر وتسنيم. فالكوثر الذي هو للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يغتذي من "تسنيم" ومن "معين" آخر، مما يُعلي من شأن "تسنيم" ويُظهره كـمنبعٍ لأشرف الأنهار والعيون الجنة. وهذا يؤكد أن أرفع الدرجات والأنعام مرتبطة بمحمد وآله (صلى الله عليه وعليهم أجمعين).
تسنيم وطوبى: طوبى شجرة عظيمة في الجنة. وقد ورد في وصفها:"قال عيسى عليه السلام، إلهي وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة ساقها وأغصانها من ذهب وورقها حلل وحملها كثدي الأبكار، أحلى من العسل وألين من الزبد وماؤها من تسنيم".
هذا الربط يوضح أن "تسنيم" ليس مجرد عينٍ مستقلة، بل هو جزءٌ أساسيٌّ من منظومة النعيم العلوي في الجنة. فماء "طوبى" الذي هو من أجود ما في الجنة ينبع أيضاً من "تسنيم"، مما يُشير إلى كونه منبعاً أصيلاً للخيرات والبركات العُليا في الجنة، وهذه الشواهد تُبرز أن "تسنيم" هو في قمة الهرم لنعيم الجنة، ومنه تتفرع أو تتغذى ينابيع وأشجار أخرى، مما يؤكد مكانته الرفيعة كشراب للمقربين الذين هم في أعلى عليين.
الخاتمة: دعوةٌ إلى القرب وولاءٌ للمقربين
إنّ دراسة "تسنيم" من خلال النص القرآني والوصف الحديثي تُبين لنا أن هذا الشراب ليس مجرد رمزٍ للنعيم، بل هو تجسيدٌ للمراتب الإيمانية الرفيعة التي يبلغها أولئك الذين سبقوا إلى الخيرات واستقاموا على ولاية الله ورسوله وأهل بيته (عليهم السلام). لقد وضعت الروايات الشريفة محمد وآل محمد (صلى الله عليه وعليهم أجمعين) في منزلة "المقربين" الأوائل، الذين يشربون من "تسنيم" صرفاً، ليكونوا بذلك منارةً وهدىً لكل من أراد القرب من الله تعالى والفوز بأشرف نعيمه.
إنّ هذه المعرفة تُحملنا مسؤولية السعي الجاد للتحلي بصفات المقربين: من إخلاص في العبادة، وثبات على الحق، وجهاد في سبيل الله، وولاء راسخ لأهل البيت (عليهم السلام). فكما أن تسنيم هو قمة النعيم المادي في الجنة، فإن القرب من محمد وآل محمد هو قمة النعيم الروحي والمعنوي في الدنيا والآخرة.
اللهم يا ذا الفضل العظيم والجود الواسع، يا من نوّرت قلوب الموحدين بنور الإيمان، وأكرمت عبادك المقربين بأشرف النعيم.
نسألك ونتوجه إليك بأحبّ الخلق إليك، وأفضلهم لديك، سيدنا ومولانا محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وبوصيّه المرتضى، وبضعته الزهراء، والأئمة الأطهار من ذريتهما (عليهم أفضل الصلاة والسلام).
اللهم، بحقّ مكانتهم عندك، وبما بلَغوا من مقامات القرب التي جعلتهم يشربون من "تسنيم" صرفاً وبحتاً؛ تفضّل علينا، بفضلك وكرمك، واكتبنا من الذين يُرزقون الشراب من عين "تسنيم"، من كفّ محمد وآل محمد الطاهرين (صلى الله عليه وعليهم أجمعين)، في أعلى عليين، مع السابقين المقربين، يا أرحم الراحمين، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.
المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
أبو حمزة الثمالي، ثابت بن دينار. تفسير أبي حمزة الثمالي. تحقيق: محمد هادي معرفة. قم: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1420 هـ. (الحديث رقم 367، ص 357)، (الحديث رقم 368، ص 357).
أبو بصير، ليث بن البختري المرادي. مسند أبي بصير. قم: دار الأعراف للطباعة والنشر، 1438 هـ. (ج 1، ص 155).
الراشدي، قاسم بن يحيى. آداب أمير المؤمنين (ع) (حديث الأربعمائة). قم: مؤسسة قائم آل محمد (عج)، 1431 هـ. (ص 173).
المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1403 هـ. (ج 24، ص 266، الحديث 29).
القمي، علي بن إبراهيم. تفسير القمي. قم: مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر، 1404 هـ.
بن فارس، أبو الحسين أحمد، معجم مقاييس اللغة. تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، ط1، 1404هـ، ج3، ص107.
|