• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الخروج قبل عرفة: موقف الحسين (عليه السلام) بين قداسة المكان وخطر الاستهداف .
                          • الكاتب : جنان الهلالي .

الخروج قبل عرفة: موقف الحسين (عليه السلام) بين قداسة المكان وخطر الاستهداف

كان ولا يزال التعريف بالفكر الحسيني المناهض للطغاة مسارا فكريا وعمليا ذا طابع استراتيجي يصب في صالح الإنسان ولهذا السبب تعاظمت المسؤولية على من يهمه هذا المسار الفكري العملي من علماء مفكرين ومعنين بتنوير الانسانيه بهذا المسار الذي يهم المسلمين والانسانيه جمعاء. نعم كل المسلمين بالكل شرفاء العالم يتفقون على ان الامام الحسين (عليه السلام) يتصدر الأحرار في أي زمان ومكان وأن مبادئه وما دَعا اليهِ من قيم خالده جاءت لخير الانسان واصلاحه ممثله بمقارعه الانحراف والتسلط والهيمنه الفرديه على جموع الوسطاء من الناس واستلاب حرياتهم وارائهم واموالهم لصالح الفرد الحاكم وحاشيته ومصالحه التي لا تعدو كونها مصالح دنيويه انيه زائلة. وفي مشهد تاريخي لا يزال موضع تأمل ودرس، في قرار مغادرة الإمام الحسين (عليه السلام) مكة المكرمة قبل يوم عرفة، متجهًا نحو الكوفة، تاركًا وراءه شعائر الحج وقداسة الحرم، وسائرًا نحو مصير يعلو فوق الحسابات الظاهرة. لم يكن هذا الخروج حدثًا عابرًا في جدول الوقائع، بل لحظة مشحونة بالرمزية، تتقاطع فيها القداسة مع الخطر، والإيمان مع الحكمة. كانت مكة في الوجدان الإسلامي وما تزال، موئل الأمان وحرز الدماء، وموضع الشعائر الكبرى. وكان الحج ــ آنذاك ــ موسمًا تجتمع فيه الأمة وتتبادل الأخبار والمواقف. وقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) في قلب هذا المشهد، رمزًا للشرعية النبوية في وجه استبداد الحكم الأموي، وملاذًا أخلاقيًا للمهمّشين والرافضين للبيعة ليزيد بن معاوية، ذلك الحاكم الذي استنكرته ضمائر الصحابة والتابعين لما عُرف عنه من مجون واستهتار بحرمة الدين، و كان الحسين (عليه السلام) الراعي الأول لدين جده محمد (صلى الله علي وآله) و هو إمام المؤمنين في عصره . لكن هذه القداسة لم تعد ضمانًا للحصانة، فقد تسللت نوايا الاغتيال إلى جوف الحرم، كما نُقل عن الإمام قوله: "والله لئن أقتل خارج الحرم بشبر، أحبّ إليّ من أن أُقتل داخله بشبر"، إشارة إلى أن السلطة الأموية لم تكن لتتورع عن انتهاك حرمة الكعبة في سبيل القضاء على معارضتها الأخطر. وكان الحسين (عليه السلام) يعلم أن بقاءه في مكة مع اقتراب موسم الحج قد يحوّل الكعبة إلى ساحة اغتيال. حيث كانت تقارير المراقبة تشير إلى تواجد أعين السلطة وعيونها، تنتظر لحظة مناسبة لارتكاب جريمة يُراد بها قتل الجسد وإرهاب الفكرة معًا. وقد رأى الإمام أن قتلُه داخل الحرم لن يُسجَّل كجريمة في نظر من انغمسوا في التبرير، بل سيُتخذ ذريعة لتشويه مشروعه، وربما تخريب قدسية الكعبة ذاتها إن تحوّلت إلى مسرح دماء. لذا، كان خروجه حمايةً لحرمة المكان، وتحصينًا لرمزية الكعبة من أن تُستعمل كأداة في يد المستبدين. حينها قرر الإمام الحسين (عليه السلام) الخروج من مكة في لحظة كان فيها الناس يدخلون إليها. ترك وراءه شعائر الحج، لكنه لم يترك روحها. فإن كانت فريضة الحج تذكيرًا بالتجرد والتضحية، واختار هو أن يكون الحج الأكبر بمفرده، ماضيًا في طريق التضحية الحقيقية. كان خروجه قبل عرفة رسالة مضمخة بالإرادة: أن الدين لا يُصان بالشعائر وحدها، بل بالدم الذي يُراق في سبيل قيمه، وأن الكعبة بلا عدالة قد تتحوّل إلى صنم جديد يُعبد من دون الله. لهذا، فإن مسيره إلى كربلاء كان امتدادًا لمعنى الحج، لا انقطاعًا عنه؛ فقد جعل من نفسه قربانًا على مذبح الإصلاح.

 

 

* ديناميكيةخروج الإمام الحسين (عليه السلام) الحركية والظروف المحيطة بخروجه:

 

خروج الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة لم يكن عشوائيًا بل كان ضمن حركة واعية ومدروسة، تتفاعل مع الواقع السياسي و تولي يزيد بن معاوية الحكم وما أثاره من رفض واسع بسبب فسقه وظلمه، ثم التهديد المباشر بعد صدور أمر من والي المدينة بأخذ البيعة من الحسين (عليه السلام) بالقوة، وبلوغه تهديدًا مباشرًا حتى في مكة أذ لم يكن خروجه هروبًا بل حركةإصلاحية ذات أبعاد دينية وأخلاقيه وسياسية. أختار زمن الخروج قبيل موسم الحج، حين كانت مكة تغص بالحجاج، لكي يبلغ رسالته لجموع المسلمين، وقرر أن يغادر قبل أن يُستغل الازدحام في قتله سرًا جزء من الديناميكية. ولعظمة حكمة الحسين (عليه السلام) وحنكته السياسية بعد ان تفاعل مع رسائل أهل الكوفة التي دعته للخروج إليهم ليقودهم ضد الحكم الأموي، أرسل مسلم بن عقيل أولًا يستطلع الوضع، ما يُظهر أنه لم يكن يتحرك بلا تبصّر. اِرتأى سيد الشهداء أن يُرسِل مندوباً عنه إلى الكوفة، فوقع الاختيار على ابن عمه مُسلم بن عقيل، لتوفر مستلزمات التمثيل والقيادة به، ومنذ وصول سفيره إلى الكوفة راحَ يجمع الأنصار، ويأخذ البَيعة للإمام الحسين (عليه السلام)، ويوضِّح أهداف الحركة الحسينية، ويشرح أهداف الثورة لزعماء الكوفة ورجالاتها. فأعلَنَت ولاءَها للإمام الحسين (عليه السلام)، وعلى أثر تلك الأجواء المشحونة، كتب مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين (عليهماالسلام) يَحثُّه بالمسير والقدوم إلى الكوفة، فتسلَّم رسالة مسلم بن عقيل وتقريره، عن الأوضاع والظروف السياسية، واتجاه الرأي العام، فقرر الإمام (عليه السلام) التوجُّه إلى العراق، وذلك في اليوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) 60 هـ، ويعني ذلك أنَّ الإمام (عليه السلام) لم يُكمِل حَجَّه بِسببِ خُطورَةِ الموقف، لِيُمارس تكليفه الشرعي في الإمامة والقيادة. فجمع الإمام الحسين (عليه السلام) نساءه، وأطفاله، وأبناءه، وأخوته، وأبناء أخيه، وأبناء عُمومَته، وشدَّ (عليه السلام) الرحَال، وقرَّر الخروج من مكة المكرَّمة، فلما سرى نبأ رحيله (عليه السلام)، تَملَّكَ الخوفُ قُلوبَ العَديد من مُخلصِيه، فأخذوا يتشبَّثون به ويستشفعون إليه، لعلَّه يعدل عن رأيه، ويتراجع عن قراره، إلاَّ أنَّ الإمام (عليه السلام) اعتذرَ عن مطالباته بالهدنة، ورفضَ كُل مَساعي القعود والاستسلام.

والمُتَتَبِّع لأخبار ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، يَجدُ أنَّ هناك سِرّاً عظيماً في نهضته، ويتوضح هذا السر من خلال النصيحة التي قُدِّمت للإمام (عليه السلام) من قِبَل أصحابه وأهل بيته، فكلُّهم كانوا يتوقَّعون الخيانة وعدم الوفاء بالعهود التي قطعها له أهل الكوفة. وندرك هنا أن للإمام الحسين (عليه السلام) قراراً وهدفاً لا يُمكِن أن يتراجع عنه، فقدْ كان واضحاً من خلال إصراره وحواره أنَّه (عليه السلام) كان متوقِّعاِ للنتائج التي آل إليها الموقف، ومشخِّصاً لها بشكل دقيق، إلاَّ أنه كان ينطلق في حركته من خلال ما يُملِيه عليه الواجب والتكليف الشرعي.

لا سيما إذا لاحظنا أن الحرب التي حمل رايتها الأمويون ومن سلطهم على رقاب المسلمين، لم تنته بعد منذ أن بادروا إلى مواجهة خاتم النبيين إلى يوم الناس هذا، وستبقى حتى ظهور المنقذ الأعظم والآخذ بذحول الأنبياء والأوصياء والشهداء . ولم تكن الحرب المفتوحة هذه تنحصر في صورة أو مشهد أو موقف معين، كما أنها لم تنحصر في زمن من الأزمان. وقد امتاز الأمويون عبر التاريخ بالإعلام المضلل القوي والحرب النفسية، والتسلل الماكر إلى قلوب الناس وأفكارهم، وتغذيتهم بالسموم الفتاكة ذات المنظر الخداع، وكانت حربهم الإعلامية على سيد الشهداء (عليه السلام) قوية ماكرة، تتسم بالخبث والشيطنة، بحيث صوّرت سبط النبي (صلى الله عليه وآله) وسيد شباب أهل الجنة للمغرر بهم من السذج في صورة "الخارجي". وقد جهد الأمويون في تشويه صورة أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين وأصحابهم الغر الميامين (عليهم صلوات رب العالمين)، وتقديمهم إلى التاريخ باعتبارهم لا يعرفون من السياسة والتعامل الاجتماعي شيئاً، فيما يرسم لنا قرود آل أُمية وأذنابهم في صور مضللة كأنهم دهاة السياسة وعفاريت التاريخ!فإذا كان هذا دأبهم مع المعصومين الأبرار الذين شهد لهم الكتاب والسنة بالطهارة والعصمة والقدس، فما ظنك بأنصارهم والمدافعين عنهم ؟!! وربما اضطر العدو أحياناً إلى ما يخاله نيلاً من أصحاب الأئمة عموماً وأنصار سيد الشهداء الله خصوصاً. ولهذا نجد. قرارالحسين (عليه السلام) في الخروج من مكة لم يكن انسحابًا من الميدان، بل لإصلاح منظومة فكرية منحرفة، وبناء مبادئ الإسلام الراسخة على أسس سليمة، و ارتقاءً بالمعركة من ساحة الحرم إلى ساحة التاريخ، حيث لم تعد الكعبة وحدها قبلة المسلمين، بل أصبحت كربلاء أيضًا قبلة لكل من ينشد الكرامة. فحين غادر الحسين مكة، لم يغادر قداسة المكان، بل حملها معه، ومضى بها إلى الصحراء، ليكتب بها آخر آياتها الحية: أن لا كعبة تُطاف حولها، ما دام فيها من يقتل باسم الدين، ويُصلِّي على جثة العدل. أن هذه الذكرى الانسانيه المضمخه بدماء الحسين عليه السلام وذويه وصحبه الاكرمين انما حفرت احداثها وحيثياتها وقيمها في انصح صفحات التاريخ حيث الامتداد المتنامي لهذه المدرسة الحسينية التي وجد فيها الإنسان ضالته في تقويم الحياة ومشاربها ومساراتها الشائكة والمتداخة وقد قَدَّمَ المؤمنون أنفس واغلى ما يملكون من أجل هذه المدرسة ومن أجل ان تتنامى في نهجها التربوي الذي يهدف في أول ما يهدف اليه زياده وعيّ الناس بحقوقهم وشحذ همامهم على مقارعه المناهج الخاطئه من السّاسَةِ المتجبرين أو غيرهم .

 

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=204667
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 06 / 25
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 06 / 27