• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : دِلَالَةُ الِاسْتِبْدَالِ الْإِلَهِيِّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: قِرَاءَةٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ .
                          • الكاتب : محمد السمناوي .

دِلَالَةُ الِاسْتِبْدَالِ الْإِلَهِيِّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: قِرَاءَةٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ

المستخلص

     يُسلطُ هذا البحثُ الضوءَ على دلالةِ آيةِ الاستبدالِ الإلهيِّ في القرآنِ الكريمِ (سورة محمد: 38)، مُركّزاً على التفسيراتِ الواردةِ في كتبِ أهلِ التفسير التي تُحدّدُ "القومَ الآخرينَ" بأهلِ فارسَ. يهدفُ البحثُ إلى ربطِ هذه النبوءةِ النبويةِ بالدورِ المعاصرِ للجمهوريةِ الإسلاميةِ الإيرانيةِ في الدفاعِ عن قضايا الإسلامِ والمستضعفينَ ضدّ الصهيونيةِ، مُقارِناً ذلكَ بخذلانِ بعضِ الأنظمةِ العربيةِ، لِبيانِ تجلّي السننِ الإلهيةِ في الواقعِ الراهنِ.

الكلمات المفتاحية: الاستبدال الإلهي، سورة محمد، أهل فارس، إيران، الصهيونية، التطبيع، المقاومة، التولّي.

Abstract

This research illuminates the divine substitution's implication in the Holy Quran (Surah Muhammad: 38), focusing on interpretations from both Sunni and Shia exegeses that identify "other people" as the Persians. The study aims to link this prophetic prediction to the contemporary role of the Islamic Republic of Iran in defending Islamic and oppressed causes against Zionism, contrasting this with the abandonment by some Arab regimes. This analysis seeks to demonstrate the manifestation of divine laws in the current geopolitical reality.

Keywords: Divine Substitution, Surah Muhammad, Persians, Iran, Zionism, Normalization, Resistance, Turning Away.

المقدمة

أولاً: بيان المسألة:

     يُعالجُ هذا البحثُ مسألةً جوهريةً في فهمِ السُننِ الإلهيةِ التي تحكمُ مسارَ الأممِ والشعوبِ، وهي "دلالةُ الاستبدالِ الإلهيِّ" كما وردتْ في القرآنِ الكريمِ، وتحديداً في قولهِ تعالى في سورةِ محمدٍ (صلى الله عليه وآله): ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ (38). تُشيرُ هذه الآيةُ الكريمةُ إلى وعدٍ إلهيٍّ بإحلالِ قومٍ محلَّ آخرينَ في حملِ أمانةِ الدينِ والدفاعِ عنه، متى ما تقاعسَ القومُ الأولُ عن واجباتِهم، و"تولّوا" عن أمرِ اللهِ تعالى. ولقد جاءتْ العديدُ من النصوصِ التفسيريةِ والحديثيةِ، لِتُحدّدَ مصداقَ هؤلاءِ "القومِ الآخرينَ" بـ"أهلِ فارسَ" أو "العجمِ"، في إشارةٍ نبويةٍ واضحةٍ تُبرزُ دورَهم في حفظِ الدينِ ونصرتِهِ.

ثانياً: إشكالية البحث:

     على الرغمِ من وضوحِ الدلالةِ النصّيةِ في المصادرِ التفسيريةِ التي تربطُ آيةَ الاستبدالِ بأهلِ فارسَ، إلا أنَّ العلاقةَ بينَ هذه النبوءةِ النبويةِ ودورِهم التاريخيِّ، ومن ثمّ دورِ الجمهوريةِ الإسلاميةِ الإيرانيةِ المعاصرةِ في الدفاعِ عن قضايا الإسلامِ والمستضعفينَ، لا تزالُ بحاجةٍ إلى تعميقٍ وتحليلٍ. تُثارُ هنا تساؤلاتٌ حولَ كيفَ يتجلّى "التولّي" في عصرنا الراهنِ لدى بعضِ الأممِ، وكيفَ يُجسّدُ موقفُ الجمهوريةِ الإسلاميةِ الإيرانيةِ، في ظلِّ التحدياتِ الكبرى كالصراعِ مع الكيانِ الصهيونيِّ، مصداقاً حياً لِـ"القومِ غيركم" الذينَ "لا يكونونَ أمثالَ" المتخاذلينَ؟ وما هي الأبعادُ العقائديةُ والسياسيةُ لهذا الربطِ في ظلِّ التحولاتِ الإقليميةِ والدوليةِ المعاصرةِ؟

ثالثاً: أهمية البحث:

تنبعُ أهميةُ هذا البحثِ من عدةِ جوانبَ:

1.     يُقدمُ البحثُ قراءةً متعمقةً في كتبِ التفسيرِ والحديثِ لكلا الفريقينِ، لِتأصيلِ دلالةِ آيةِ الاستبدالِ على أهلِ فارسَ، مما يُثري المكتبةَ الإسلاميةَ ويُعزّزُ الفهمَ الشاملَ للنصوصِ الدينيةِ.

2.     يُسهمُ البحثُ في ترسيخِ الإيمانِ بِصحةِ النبوءاتِ القرآنيةِ والنبويةِ، وكيفيةِ تجليها في الواقعِ التاريخيِّ والمعاصرِ، مما يُعزّزُ الثقةَ بالسننِ الإلهيةِ.

3.     يُسلطُ البحثُ الضوءَ على الدورِ المحوريِّ للجمهوريةِ الإسلاميةِ الإيرانيةِ في الدفاعِ عن القضايا الإسلاميةِ الكبرى، لا سيما القضيةَ الفلسطينيةَ، ويُحلّلُ أبعادَ هذا الدورِ في سياقِ آيةِ الاستبدالِ، مما يُقدمُ رؤيةً نقديةً وواقعيةً للوضعِ الراهنِ للأمةِ.

4.     يُعدُّ هذا البحثُ بمثابةِ دعوةٍ للأمةِ الإسلاميةِ لِلتفكّرِ في سنّةِ الاستبدالِ الإلهيِّ، والابتعادِ عن التولّي والخذلانِ، والعودةِ إلى المبادئِ والقيمِ الإسلاميةِ الأصيلةِ، والوقوفِ صفاً واحداً في وجهِ الظلمِ والاستكبارِ.

رابعاً: أهداف البحث:

يهدفُ هذا البحثُ إلى تحقيقِ الأهدافِ الآتيةِ:

1.     تحليلُ مفهومِ "الاستبدالِ الإلهيِّ" و"التولّي" في القرآنِ الكريمِ، وتحديداً في سورةِ محمدٍ (صلى الله عليه وآله).

2.     جمعُ وتوثيقُ النصوصِ التفسيريةِ والحديثيةِ من كتبِ التفسير التي تُفسّرُ "قومًا غيركم" بأهلِ فارسَ (العجم/الإيرانيين).

3.     بيانُ الأوصافِ والصفاتِ التي أُطلقتْ على أهلِ فارسَ في هذه النصوصِ، وتحليلُ دلالاتِها.

4.     ربطُ دلالاتِ الآيةِ والأحاديثِ النبويةِ بواقعِ الجمهوريةِ الإسلاميةِ الإيرانيةِ المعاصرةِ ودورها في الدفاعِ عن الإسلامِ والمسلمينَ، لا سيما في مواجهةِ الكيانِ الصهيونيِّ.

5.     تسليطُ الضوءِ على مفهومِ الخذلانِ والتطبيعِ الذي مارستهُ وتُمارسُهُ بعضُ الدولِ العربيةِ، وربطُهُ بمفهومِ "التولّي" الواردِ في الآيةِ الكريمةِ.

6.     استشرافُ آفاقِ المستقبلِ بناءً على سنّةِ الاستبدالِ الإلهيِّ، وتقديمُ رؤيةٍ لِدورِ الثباتِ والمقاومةِ في تحقيقِ النصرِ والتمكينِ.

 

 

 

 

   الوعد الإلهي بالاستبدال وتحديات الأمة المعاصرة

     تُعدّ آياتُ القرآنِ الكريمِ نبعاً لا ينضبُ من الحِكمةِ الإلهيةِ، تفيضُ بالبصائرِ التي تُضيءُ دروبَ الإنسانِ والأممِ عبرَ العصورِ. ومن بين هذه الآياتِ، تقفُ آيةُ الاستبدالِ في سورةِ محمدٍ (صلى الله عليه وآله)، وهي قوله تعالى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ (38)، لتكونَ مناراً يَهدي إلى فهمِ سُننِ اللهِ في قيادةِ الأممِ، وتدبيِرِ شؤونِها. إنها ليست مجردُ إنذارٍ، بل هي وعدٌ إلهيٌّ بِسُنّةٍ لا تتبدلُ: متى تخلّى قومٌ عن أمانةِ حملِ الدينِ والدفاعِ عنه، فإنّ اللهَ قادرٌ على أن يأتيَ بقومٍ آخرينَ أكثرَ منهم إيماناً وثباتاً، وأشدَّ إخلاصاً وعزيمةً.

     وفي عصرنا الراهن، حيث تتلاطمُ أمواجُ التحدياتِ التي تواجهُ الأمةَ الإسلاميةَ، وتتّضحُ خياراتُ الأممِ بينَ الثباتِ على المبادئِ الربانيةِ والتنازلِ عنها لأجلِ المصالحِ الدنيويةِ، تُصبحُ هذه الآيةُ الكريمةُ أكثرَ إلحاحاً وحيويةً في دلالاتها. هذا البحثُ سيتناولُ هذه الآيةَ المباركةَ من منظورِ البحث العلمي المنصف، مستعيناً بكنوزِ التفاسيرِ السنيةِ والشيعيةِ على حدٍ سواءٍ، لاستجلاءِ المعانيَ الكامنةَ فيها، والكشفِ عن مصاديقها التاريخيةِ والمعاصرةِ. وسيركزُ البحثُ بشكلٍ خاصٍّ على ربطِ الآيةِ بدلالةِ "قومٍ غيركم" على أهلِ فارسَ (إيران اليوم)، وبيانِ دورِ الجمهوريةِ الإسلاميةِ الإيرانيةِ في حملِ رايةِ الدفاعِ عن الإسلامِ والمسلمينَ، لا سيما في مواجهةِ المشروعِ الصهيونيِّ، مقارنةً بخذلانِ بعضِ الدولِ العربيةِ التي اختارتْ طريقَ التطبيعِ والذلِّ.

     إنّ هذا البحثَ لا يهدفُ إلى مجردِ التحليلِ الأكاديميِّ، بل يسعى إلى إيقاظِ الوعيِ، وتوجيهِ البوصلةِ نحو الفهمِ العميقِ للسننِ الإلهيةِ، والتأكيدِ على مسؤوليةِ كلِّ مسلمٍ ومؤمن في حملِ الأمانةِ، والوقوفِ في وجهِ الظلمِ، استلهاماً من روحِ هذه الآيةِ العظيمةِ التي تُبشّرُ بالصابرينَ الثابتينَ، وتُنذرُ المتخاذلينَ .

أولاً: آية الاستبدال الإلهي في سورة محمد (صلى الله عليه وآله) ومفهوم التولي

1.1 سياق الآية: الإنذار الرباني للمتولين

     آية الاستبدال الواردة في سورة محمد (صلى الله عليه وآله) هي جزءٌ من سياقٍ قرآنيٍّ يُخاطبُ المؤمنينَ، ويُحذّرُهم من التولّي عن أمرِ اللهِ تعالى، وعن دعوةِ نبيهِ المصطفى (صلى الله عليه وآله). إنّ سورةَ محمدٍ (صلى الله عليه وآله) من السورِ المدنيةِ التي جاءت في مرحلةٍ حاسمةٍ من عمرِ الدعوةِ الإسلاميةِ، حيثُ كانتِ الأمةُ في طورِ البناءِ والتمكينِ، وكانتْ بحاجةٍ إلى ترسيخِ مفاهيمِ الطاعةِ، والثباتِ، والتضحيةِ، ومواجهةِ المنافقينَ وأعداءِ الدينِ.

      تبدأُ السورةُ ببيانِ الفارقِ بينَ الذينَ كفروا والذينَ آمنوا، وتُشيرُ إلى الصراعِ بينَ الحقِّ والباطلِ، وتدعو إلى قتالِ الذينَ كفروا حتى تضعَ الحربُ أوزارَها. وفي هذا السياقِ الشديدِ الذي يُؤكّدُ على مسؤوليةِ المؤمنينَ في نصرةِ الدينِ، تأتي آيةُ الاستبدالِ كـقانونٍ إلهيٍّ ثابتٍ، يُبيّنُ عاقبةَ من يُقصّرونَ في هذه المسؤوليةِ.

الآيةُ الكريمةُ: ﴿وَإِن تَتَوَّلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم (38)﴾، تضعُ المؤمنينَ أمامَ خيارٍ حاسمٍ: إما الثباتُ على طاعةِ اللهِ ورسولهِ، والدفاعِ عن الدينِ، وإما التولّي والإعراضِ، الذي ستكونُ عاقبتُه وخيمةً.

1.2 مفهوم "التولّي" في الآية:

كلمةُ "تتولوا" في الآيةِ تحملُ دلالاتٍ متعددةً، كلها تُشيرُ إلى معنى الإعراضِ والابتعادِ عن الطاعةِ، والمسؤوليةِ، والولاءَ الواجبِ للهِ ورسولهِ (صلى الله عليه وآله). وهي تشملُ:

1.     التولي عن الطاعةِ الإلهيةِ: أي الإعراضُ عن أوامرِ اللهِ ونواهيهِ، والتكاسلُ عن أداءِ الواجباتِ الشرعيةِ، أو التساهلُ في تطبيقِ أحكامِ الدينِ.

2.     التولي عن نصرةِ الدينِ: في سياقِ السورةِ التي تتحدثُ عن القتالِ والجهادِ، فإنّ التولّي هنا يعني التقاعسَ عن نصرةِ الإسلامِ، والتخاذلَ في مواجهةِ أعدائهِ، أو حتى التحالفَ معهم ضدَّ المسلمينَ.

3.     التولي عن ولايةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام): من منظورٍ شيعيٍّ أصيلٍ، وكما سنرى في تفسيرِ القميِّ، فإنّ "التولّي" قد يُشيرُ أيضاً إلى التولّي عن ولايةِ أميرِ المؤمنينَ والأئمةِ من بعدهِ (عليهم السلام). هذه الولايةُ هي امتدادٌ لولايةِ اللهِ ورسولهِ، والتولي عنها يُعدّ إعراضاً عن المسارِ الإلهيِّ الصحيحِ.

     إنّ هذا التولّي هو فعلٌ إراديٌّ من الإنسانِ، يُعبّرُ عن اختيارهِ للراحةِ والدنيا على حسابِ الآخرةِ والمبادئِ. وهو ما يُقابلهُ الفعلُ الإلهيُّ بـ"الاستبدالِ"، الذي هو سُنّةٌ لا تتبدلُ في تاريخِ الأممِ.

1.3 دلالة "يستبدلْ قوماً غيركم": سُنّة إلهية لا محاباة فيها

      الاستبدالُ في هذه الآيةِ ليسَ مجردَ تغييرٍ، بل هو إحلالٌ لقومٍ محلَّ قومٍ آخرينَ، مع صفةٍ مهمةٍ جداً: "ثم لا يكونوا أمثالكم". هذه الصفةُ تُشيرُ إلى أنَّ القومَ المستبدَلَ بهم لن يكونوا أسوأَ من القومِ الذينَ تولّوا، بل سيكونونَ أفضلَ منهم في الثباتِ على الدينِ، والطاعةِ للهِ، والإخلاصِ في نصرةِ الحقِّ.

      هذه الآيةُ تُقرّرُ سُنّةً إلهيةً لا تُحابي أحداً: فاللهُ لا يرضى عن التقاعسِ والتخاذلِ في نصرةِ دينهِ. فإذا تخلّى قومٌ -مهما كانوا قريبينَ من النبيِّ أو لهم سابقةٌ في الإسلامِ- عن مسؤوليتهم، فإنّ اللهَ قادرٌ على إيجادِ بديلٍ أفضلَ وأكثرَ ثباتاً. هذه السُنّةُ تُعطي درساً بليغاً بأنّ العبرةَ ليستْ بالنسبِ أو السابقةِ فحسب، بل بالثباتِ على الحقِّ والعملِ الصالحِ والمداومةِ على نصرةِ الدينِ.

وهنا تكمنُ أهميةُ البحثِ في كشفِ مصاديقِ هذا الاستبدالِ، وكيفَ تجلّى في التاريخِ، وكيفَ يتجلّى في واقعنا المعاصرِ.

ثانياً: أهلُ فارسَ (العجم/الإيرانيون) في نصوصِ التفاسيرِ السنيةِ والشيعيةِ

2.1 دلالة "قوماً غيركم" في التفاسير السنية: "هذا وقومه.. رجال من فارس"

      إنّ الملفتَ للنظرِ في تفسيرِ هذه الآيةِ الكريمةِ، هو اتفاقُ عددٍ كبيرٍ من كبارِ مفسّري أهلِ السنةِ وعلماءِ الحديثِ على تحديدِ "القومِ الآخرينَ" بأنهم أهلُ فارسَ (العجمُ)، وذلكَ بناءً على أحاديثَ نبويةٍ شريفةٍ تُفسّرُ الآيةَ. هذه الأحاديثُ، على الرغمِ من ورودِ بعضِ الاختلافاتِ في أسانيدها (وهو أمرٌ طبيعيٌّ في علمِ الحديثِ لا يُضعفُ المتنَ إذا تعددتْ طرقهُ وقُويتْ)، إلا أنها تُشكلُ مصداقاً واضحاً ودلالةً لا يُمكنُ تجاهلُها.

فلنستعرضْ هذه النصوصَ الواردةَ في مصادرِ أهلِ السنةِ:

1.     الجامع تفسير القرآن، عبد الله بن وهب المصري القرشي، ص ٦٦:

o        النص: "وَأَخْبَرَنِي مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَى هَذِهِ الآيَةَ : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتُبْدِلُوا بِنَا ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَنَا ؛ فَضَرَبَ عَلَى فَخِذِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا وَقَوْمُهُ ، لَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رجالٌ مِن فَارِسَ."

o        التعليق والتحليل: هذا الحديثُ يُعدُّ من أوضحِ الدلالاتِ. سؤالُ الصحابةِ عن هؤلاءِ القومِ، وإجابةُ النبيِّ (صلى الله عليه وآله) بضربِهِ على فخذِ سلمانَ الفارسيِّ، ثُمَّ قولُهُ الصريحُ "هذا وقومُهُ"، لا يَدعُ مجالاً للشكِّ في أنَّ المقصودَ هم أهلُ فارسَ. والجملةُ الأخيرةُ "لو كانَ الدينُ عندَ الثريا لتناولَهُ رجالٌ من فارسَ" هي شهادةٌ نبويةٌ عظيمةٌ على همّةِ وصدقِ وقوةِ إيمانِ هؤلاءِ القومِ، وقدرتهم على بلوغِ أقصى مراتبِ الدينِ حتى لو كانتْ بعيدةً ومنالُها صعبٌ.

2.     سنن الترمذي، ج ٥، الترمذي، ص ٦٠:

o        النص: "حدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا شيخ من أهل المدينة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية يوما ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ). قالوا ومن يستبدل بنا ؟ قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال : هذا وقومه"

o        تعليق الترمذي: "هذا حديث غريب وفي إسناده مقال . وقد روى عبد الله بن جعفر أيضا هذا الحديث عن العلاء بن عبد الرحمن ."

o        التعليق والتحليل: على الرغم من تعليق الترمذي على الإسنادِ بقولهِ "في إسناده مقال"، إلا أنَّ ورودَ الحديثِ في مصادرَ أخرى بطرقٍ قويةٍ، وتعددَ رواتهِ، يُقوّي متنَه ويُثبّتُ دلالتَهُ. ويبقى المتنُ هو ذاتُه، مؤكداً على الإشارةِ إلى سلمانَ وقومهِ.

3.     جامع البيان عن تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، ج5، ص310:

o        النص: "وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنها لما نزلت ، ضرب بيده على ظهر سلمان ، فقال : هم قوم هذا يعني عجم الفرس."

o        التعليق والتحليل: الطبري، وهو إمام المفسرين، يُوردُ هذا التفسيرَ، ويُوضّحُ صراحةً أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) قصدَ "عجمَ الفرسِ". هذا يؤكدُ الفهمَ السائدَ في عصورِ التفسيرِ المبكرةِ لدلالةِ الآيةِ على أهلِ فارسَ.

4.     معاني القرآن وإعرابه، إبراهيم بن السري بن سهل، ج5، ص311:

o        النص: "وجاء أيضاً - يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكمْ مِن أهل فَارِسَ."

o        التعليق والتحليل: هنا يُذكرُ التخصيصُ مباشرةً: "من أهل فارسَ"، مما يُشيرُ إلى أنَّ هذا التفسيرَ كانَ راسخاً ومعروفاً.

5.     تفسير القرآن العظيم تفسير ابن أبي حاتم، ج10، ص 3299:

o        النص: "عن أبي هريرة قال : تلا رسول الله - صلى الله عليه( وآله) وسلم - هذه الآية ﴿وَإِنْ تَتَوَّلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ فقالوا يا رسول الله : من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على منكب سلمان ثم قال: هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس."

o        التعليق والتحليل: هذا النصُّ يُضيفُ تأكيداً قوياً بوجودِ القسمِ النبويِّ "والذي نفسي بيده"، مما يُعطي للحديثِ قوةً استثنائيةً ودلالةً قاطعةً في تحديدِ المقصودِ بالآيةِ. إنَّ تعليقَ الإيمانِ بالثريا، وهو أقصى ما يُتصوّرُ من العلوِّ والبعدِ، يُشيرُ إلى همّةِ رجالِ فارسَ وعزيمتهم على التمسكِ بالدينِ مهما كلفَ الثمنُ.

6.     صحيح ابن حبان، تحقيق الأرنؤوط، ج16، ص63، سلمان الفارسي رضي الله تعالى عَنْهُ 7123:

o        النص: "أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو طاهر حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 ] قَالُوا : يا رسول الله من هؤلاء الذي إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتُبْدِلُوا بِنَا ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَنَا فَضَرَبَ عَلَى فَخِذِ سَلْمَانَ الْفَارِسَيِّ ثُمَّ قَالَ : " هَذَا وَقَوْمُهُ لَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثريا لتناوله رجال من فارس "."

o        هامش الأرنؤوط: "حديث صحيح . مسلم بن خالد - هو المخزومي المكي الزنجي - سيئ الحفظ ، لكنه قد توبع ، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح ... وأخرجه الطيري في " جامع البيان " 26 / 66 - 67 ، وأبو نعيم في " تاريخ أصبهان " 1 / 3 من طريقين عن ابن وهب ، بهذا الإسناد. وأخرجه الطبري 26 / 66 و 67 ، وأبو نعيم 1 / 2 - 3 و 3 من طرق عن مسلم بن خالد ، به. وأخرجه الترمذي " 3261 " في تفسير القرآن : باب ومن سورة محمد ، وأبو نعيم في " تاريخ أصبهان " 1 / 3 من طريقين عن إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جعفر بن نجيح ، عن العلاء ، به . وعبد الله بن جعفر هذا : ضعيف . وأخرج أبو نعيم 1 / 3 من طرق عن عبد الله بن جعفر ، به . وأخرجه البيهقي في " دلائل النبوة " 6 / 334 من طريق أبي الربيع سليمان بن داود الزهراني ، عن إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء ، به . وأخرجه الترمذي " 3260 " من طريق عبد الرزاق ، عن شيخ من أهل المدينة عن العلاء به . وقال : هذا حديث غريب في إسناده مقال . وأخرجه أبو نعيم 1 / 3 - 4 من طريق عبد الله بن جعفر ، و 1 / 5 من طريق إبراهيم بن محمد المدني ، كلاهما عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة . وأخرجه طرفه الأخير : أحمد 2 / 309 ، ومسلم " 2546 " " 230 " ، وأبو نعيم 1 / 4 من طريق يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة . وأخرجه أبو نعيم 1 / 4 و 5 و 6 ، وابن شيبة 12 / 207 من طرق عن أبي هريرة . وانظر الحديث رقم " 7308 " و " 7309 " ."

o        التعليق والتحليل: تصحيحُ الأرنؤوطِ للحديثِ رغمَ وجودِ ضعفٍ في بعضِ طرقهِ، يُؤكّدُ على قوتِهِ بمجموعِ طرقِهِ وشواهدِهِ. وهو يُوردُ تفصيلاً دقيقاً لِمختلفِ الرواياتِ والأسانيدِ، مما يُعطي مصداقيةً أكبرَ لمتنِ الحديثِ الذي يُحدّدُ أهلَ فارسَ (الإيرانيين) كمصداقٍ رئيسٍ للآيةِ. إنّ هذا الاستعراضَ لأكثرَ من اثني عشرَ طريقاً للحديثِ يُبرهنُ على رسوخِ هذا المعنى في التراثِ الحديثيِّ والتفسيريِّ لأهلِ السنةِ.

7.     تفسير الرازي، ج ٢٨، فخر الدين الرازي، ص ٧٦:

o        النص: "قال الله تعالى ههنا ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ ... وفيه وجوه أحدها : قوم من العجم ثانيها : قوم من فارس روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن يستبدل بهم إن تولوا وسلمان إلى جنبه فقال : " هذا وقومه " ثم قال : " لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لناله رجال من فارس "."

o        التعليق والتحليل: الرازي، وهو من كبارِ المفسرينَ ذوي النزعةِ العقليةِ، يُوردُ الحديثَ بصيغتيهِ الدالّةِ على أهلِ فارسَ، ويُدرجهُ ضمنَ وجوهِ تفسيرِ "قومٍ غيركم"، مما يُعزّزُ من قَبولِ هذا التفسيرِ على نطاقٍ واسعٍ في الأوساطِ العلميةِ السنيةِ.

8.     الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ج ٣، الزمخشري، ص ٥٤٠:

o        النص: "وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القوم وكان سلمان إلى جنبه ، فضرب على فخذه وقال : هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان موطأ بالثريا لتناوله رجال من فارس."

o        التعليق والتحليل: الزمخشري، وهو من أئمة اللغة والبلاغة، يُوردُ الحديثَ كاملاً مع القسمِ، مما يُشيرُ إلى اعتمادهِ عليه في تفسيرِ الآيةِ، ويُثبّتُ أنَّ هذا المعنى كانَ مستقرّاً في عقليةِ العلماءِ البارعينَ في فنونِ التفسيرِ واللغةِ.

9.     معالم التنزيل في تفسير القرآن ( تفسير البغوي )، ج ٤، البغوي، ص ١٨٧:

o        النص: "قالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا فضرب على فخذ سلمان الفارسي ثم قال  هذا وقومه ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس"

o        التعليق والتحليل: البغوي، وهو من أصحاب التفسير بالرواية، يُوردُ الحديثَ كاملاً، مما يدلُّ على اعتمادِهِ على الرواياتِ النبويةِ في تحديدِ مصداقِ الآيةِ.

10. شرح السنة، ج ١٤، البغوي، ص ٢٠٠:

o        النص: "أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلا هَذِهِ الآيَةَ : { وَإِنْ تَتَوَّلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ مُحَمَّد : 38 ] ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتُبْدِلُوا بِنَا ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَنَا ؟ فَضَرَبَ عَلَى فَخِذِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ ، ثُمَّ قَالَ : « هَذَا وَقَوْمُهُ ، وَلَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنَ الْفُرْسِ » ."

o        التعليق والتحليل: ورودُ الحديثِ في كتبِ شرحِ السنةِ يُبرزُ أهميتهُ الحديثيةَ، ويُؤكّدُ على صحتِهِ وقوةِ دلالتِهِ، وأنَّ علماءَ الحديثِ قد قبلوهُ واعتمدوهُ في بيانِ فضلِ أهلِ فارسَ.

11. تاريخ مدينة دمشق، ج ٢١، ابن عساكر، ص ٤١٦:

o        النص: "... فضرب على فخذ سلمان الفارسي ثم قال هذا وقومه ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من فارس... قال فضرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يده على فخذ سلمان  فقال هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس."

o        التعليق والتحليل: ابن عساكر، وهو من كبارِ المؤرخينَ والمحدّثينَ، يُوردُ الحديثَ بطرقٍ متعددةٍ ويُبرزُ القسمَ النبويَّ، مما يُضيفُ وزناً تاريخياً وعلمياً لهذا التفسيرِ الذي يُحدّدُ أهلَ فارسَ.

12. زاد المسير في علم التفسير، ج ٧، ابن الجوزي، ص ١٥٨:

o        النص: "وفي هؤلاء القوم ثمانية أقوال : أحدها : أنهم العجم ، قاله الحسن ، وفيه حديث يرويه أبو هريرة قال : لما نزلت " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم " كان سلمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله : من هؤلاء الذين إذا تولينا استبدلوا بنا ؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على منكب سلمان ، فقال : "هذا وقومه ، والذي نفسي بيده ! لو أن الدين معلق بالثريا لتناوله رجال من فارس"."

o        التعليق والتحليل: ابن الجوزي، على الرغم من ذكره لعدة أقوال، إلا أنه يبدأ بذكر قول الحسن البصري بتحديد "العجم"، ويُعضّدهُ بالحديثِ الشريفِ، مما يدلُّ على قوةِ هذا القولِ واعتمادهِ في كتبِ التفسيرِ.

    إنّ هذا الإجماعَ الكبيرَ في كتبِ التفسيرِ والحديثِ السنيةِ على تفسيرِ "قومٍ غيركم" بـ"أهلِ فارسَ" أو "العجمِ"، وربطَ ذلكَ بسلمانَ الفارسيِّ وشهادةِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله) لهم بالهمّةِ والإيمانِ الراسخِ حتى لو كانَ الدينُ معلّقاً بالثريا، يُشكّلُ دليلاً قاطعاً على نبوءةٍ عظيمةٍ حولَ دورِ هذا القومِ في نصرةِ الإسلامِ عبرَ العصورِ.

2.2 دلالة "قومٍ غيركم" في التفاسير الشيعية: ولاية أهل البيت واستبدال المعارضين

     لا يختلفُ التفسيرُ الشيعيُّ في جوهرِهِ عن التفسيرِ السنيِّ في تحديدِ مصداقِ الآيةِ على أهلِ فارسَ، بل يُضيفُ إليهِ بُعداً اعتقادياً مهماً يتعلقُ بولايةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام)، وهو ما يُعطي للآيةِ دلالةً أعمقَ في سياقِ الأحداثِ التي تلت وفاةَ النبيِّ (صلى الله عليه وآله).

1.     تفسير القمي، علي بن إبراهيم، ج2، ص309:

o        النص: "قوله ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا﴾ عن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام ﴿يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ قال : يدخلهم في هذا الامر ﴿ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ في معاداتكم وخلافكم وظلمكم لآل محمد صلى الله عليه وآله ، حدثني محمد بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن جعفر عن السندي بن محمد عن يونس بن يعقوب عن يعقوب بن قيس قال قال أبو عبد الله عليه السلام : يا بن قيس ﴿وان تتولوا يستبدل قوما غيركم لا يكونوا أمثالكم﴾ عنى أبناء الموالي المعتقين ."

o        التعليق والتحليل: هذا التفسيرُ الشيعيُّ يُقدّمُ بُعداً إضافياً لـ"التولّي" في الآيةِ، وهو "التولي لولايةِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام)". وهذا يُشيرُ إلى أنَّ الإعراضَ عن خطِّ الولايةِ الإلهيةِ بعدَ النبيِّ (صلى الله عليه وآله) يُعدُّ من أسبابِ هذا الاستبدالِ. والقميُّ يُوضّحُ أنَّ القومَ المستبدَلَ بهم لن يكونوا "أمثالكم في معاداتكم وخلافكم وظلمكم لآل محمد (صلى الله عليه وآله)". وهذا يُعطي صفةً مميزةً للقومِ المستبدَلَ بهم، وهي أنهم سيكونونَ موالينَ لأهلِ البيتِ ومُحبينَ لهم، بعكسِ من تولّوا، والإمامُ الصادقُ (عليه السلام) في حديثهِ يُحدّدُهم بـ"أبناءِ الموالي المعتقين"، والموالي هم الذينَ اعتنقوا الإسلامَ من غيرِ العربِ، وخاصةً الفرسُ الذينَ كانَ سلمانُ الفارسيُّ من أبرزِ رموزهم. وهذا لا يتعارضُ مع تفسيرِ أهلِ السنةِ، بل يُضيءُ جانباً مهماً من أسبابِ تفضيلِ هؤلاءِ القومِ، وهو ولاؤهم لأهلِ البيتِ (عليهم السلام).

2.     التبيان في تفسير القرآن، ج ٩، الشيخ الطوسي، ص ٣١١:

o        النص: "( يستبدل قوما غيركم ) قال قوم يستبدل الله بهم من في المعلوم أنهم يخلقون بعد ، ويجوز أن يكونوا من الملائكة وقيل : هم قوم من اليمن ، وهم الأنصار . وقيل : مثل سلمان وأشباهه من أبناء فارس )."

o        التعليق والتحليل: الشيخُ الطوسيُّ، وهو من أعمدةِ التفسيرِ الشيعيِّ، يُوردُ الأقوالَ المختلفةَ في تفسيرِ الآيةِ، ومنها قولُهُ: "مثلُ سلمانَ وأشباههِ من أبناءِ فارسَ". هذا يُؤكدُ اتفاقَ التفسيرينِ السنيِّ والشيعيِّ على تحديدِ أهلِ فارسَ كأحدِ المصاديقِ البارزةِ للآيةِ، مع بقاءِ بعضِ التفاسيرِ الأخرى التي قد لا تخرجُ عن دائرةِ التوقعاتِ أو الاحتمالاتِ.

2.3 التوافق والتكامل بين التفاسير:

     من خلالِ استعراضِ النصوصِ من كلا المدرستينِ التفسيريتينِ (السنيةِ والشيعيةِ)، يتّضحُ جلياً وجودُ توافقٍ كبيرٍ حولَ أنَّ المقصودَ بـ"قومٍ غيركم" هم أهلُ فارسَ (العجم)، وأنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) قد أشارَ إلى سلمانَ الفارسيِّ كرمزٍ لهؤلاءِ القومِ، وان الفارقُ الأساسيُّ الذي يُميّزُ التفسيرَ الشيعيَّ هو إضافةُ بُعدِ الولايةِ لأهلِ البيتِ (عليهم السلام) كأحدِ أسبابِ هذا الاستبدالِ، وكصفةٍ مميزةٍ للقومِ المستبدَلَ بهم. هذا البُعدُ لا يُلغي دلالةَ الآيةِ على أهلِ فارسَ، بل يُعطيها عمقاً إضافياً في فهمِ السننِ الإلهيةِ ودورِ الولايةِ في حفظِ الدينِ.

     إنّ هذا التوافقَ في التفسيرِ يُعطي للآيةِ قوةً أكبرَ، ويُظهرُ أنَّ هذه النبوءةَ النبويةَ كانتْ راسخةً في أذهانِ الصحابةِ والتابعينَ من مختلفِ المذاهبِ، مما يجعلُ تطبيقَها على الواقعِ أمراً بالغَ الأهميةِ.

ثالثاً:  أهل فارس عبر التاريخ الإسلامي: وفاء بالوعد النبوي

3.1 دور الفرس في حفظ العلوم الإسلامية وتطويرها:

      لا يمكن لأي مؤرخ أو باحث منصف أن ينكر الدور المحوري الذي لعبه أبناء فارس في حفظ العلوم الإسلامية وتطويرها، بعد قرون من ظهور الإسلام. فبعد الفتوحات الإسلامية، اعتنق الفرس الإسلام بحماسة، ولم يمر وقت طويل حتى أصبحوا من أبرز رواد العلم والمعرفة في الحضارة الإسلامية.

  • علوم الحديث: برز منهم كبار المحدثين الذين حفظوا ونقلوا سنة النبي (صلى الله عليه وآله)، ومنهم من هو معروف في الأوساط السنية كـ البخاري (محمد بن إسماعيل البخاري، من بخارى، أوزبكستان الحالية، وهي جزء من بلاد فارس الكبرى آنذاك) ومسلم (مسلم بن الحجاج، من نيسابور، إيران الحالية).
  • علم التفسير: أسهموا بجهود جبارة في تفسير القرآن الكريم، ومنهم من ذكرناهم سابقاً كـ الطبري (محمد بن جرير الطبري، من طبرستان، إيران الحالية) والرازي (فخر الدين الرازي، من الري، إيران الحالية)، وغيرهم الكثير.
  • اللغة العربية: على الرغم من أنهم ليسوا عرباً، إلا أنهم أتقنوا اللغة العربية، وأسسوا قواعدها وعلومها، فبرز منهم سيبويه، والفرّاء، وغيرهم من كبار النحويين واللغويين الذين لولا جهودهم لما وصلت إلينا اللغة العربية بقواعدها المحكمة التي هي عليها اليوم.
  • الفقه والأصول والفلسفة والعرفان: قدموا كبار الفقهاء والأصوليين والفلاسفة والعرفاء الذين أثروا المكتبة الإسلامية بآلاف المؤلفات، سواء في الفقه السني أو الشيعي.
  • الطب والرياضيات والفلك: لم يقتصر دورهم على العلوم الدينية، بل كانوا رواداً في العلوم الطبيعية والتطبيقية، وقدموا علماء كباراً مثل ابن سينا، والخوارزمي، والبيروني، الذين أثرت اكتشافاتهم العالم لقرون طويلة.

     إن هذه الإنجازات ليست مجرد تفاصيل تاريخية، بل هي مصداقٌ عمليٌّ لقولِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله): "لو كانَ الدينُ عندَ الثريا لتناولَهُ رجالٌ من فارسَ". فكأنهم بعد أن تلقوا الدين من العرب، أخذوا على عاتقهم مسؤوليته حفظاً وتطويراً ونشراً، وأوصلوه إلى آفاقٍ بعيدةٍ لم يبلغها غيرهم.

3.2 استمرارية الالتزام الديني والولائي في الثقافة الفارسية:

     ما يميز أهل فارس على مر التاريخ، هو ليس فقط إسهامهم العلمي، بل استمرار التزامهم الديني والولائي. فبعد تحولهم إلى التشيع كخط فكري ومذهبي، أصبحوا من حماة خط أهل البيت (عليهم السلام) ومروجيه، خاصة بعد قيام الدولة الصفوية التي جعلت التشيع مذهبها الرسمي، مما كان له أثر كبير في نشر التشيع وتثبيته في المنطقة.

  • التمسك بالثقلين: ظلّت الثقافة الفارسية، ولا تزال، متمسكةً بالقرآن الكريم وأهل البيت (عليهم السلام) كثقلين لا ينفصلان، وفقاً لحديث الثقلين الشريف. هذا التمسك هو الذي منحهم القوة والصمود في وجه التحديات.
  • الروح الجهادية: لم ينقطع منهم روح الجهاد والدفاع عن الإسلام، سواء في مواجهة الغزوات الخارجية أو في مواجهة الانحرافات الداخلية. هذه الروح تُمثّلُ استمراراً للنبؤةِ النبويةِ عن قومٍ لا يكونونَ "أمثالكم" في التخاذلِ أو التولي.

     هذا الاستعراضُ لدورِ أهلِ فارسَ عبرَ التاريخِ يُؤكدُ أنَّ النبوءةَ النبويةَ في آيةِ الاستبدالِ لم تكنْ مجردَ كلامٍ، بل هي حقيقةٌ تجلّتْ في واقعٍ تاريخيٍّ طويلٍ، وأنّ هذا القومَ قد حملَ أمانةَ الدينِ ودافعَ عنه، وحافظَ على علومهِ، بل طوّرها ونشرها في العالمِ.

رابعاً: الجمهورية الإسلامية الإيرانية: مصداقٌ معاصرٌ لآيةِ الاستبدالِ

4.1 قيام الجمهورية الإسلامية: انبعاثٌ جديدٌ لدورِ أهلِ فارسَ

     يُمكنُ القولُ بأنّ قيامَ الجمهوريةِ الإسلاميةِ في إيران عام 1979م، بقيادةِ الإمامِ الخمينيِّ (قدس سره)، يُشكلُ منعطفاً تاريخياً فارقاً، ومصداقاً واضحاً، بل ذروةً، لتجلّي هذه النبوءةِ النبويةِ وآيةِ الاستبدالِ في عصرنا الراهنِ. بعد قرونٍ من التراجعِ والجمودِ، عادتْ إيرانُ لِتحملَ رايةَ الإسلامِ السياسيِّ، وتُصبحَ دولةً تقومُ على أساسِ المبادئِ الإسلاميةِ، مُعلنةً عن رفضِها للهيمنةِ الأجنبيةِ والاستكبارِ العالميِّ.

  • ثورةٌ على "التولّي": كانت الثورةُ الإسلاميةُ في جوهرها ثورةً على نظامٍ ملكيٍّ كان قد "تولّى" عن قيمِ الإسلامِ الأصيلةِ، وانخرطَ في تبعيةٍ واضحةٍ للقوى الاستكباريةِ. فجاءت الثورةُ لِتُثبتَ أنَّ أهلَ فارسَ لا يزالونَ يحملونَ في أعماقهم جذوةَ الإيمانِ والاستعدادَ لِلقيامِ بِأمرِ اللهِ تعالى، مُحققينَ بذلكَ الجزءَ الأولَ من الآيةِ: ﴿وَإِن تَتَوَّلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾.
  • "لا يكونوا أمثالكم": إنَّ الجمهوريةَ الإسلاميةَ في إيرانَ لم تكنْ "مثلَ" الأنظمةِ التي سبقتها في التبعيةِ والتولي، بل جاءت بصفاتٍ مختلفةٍ تماماً: الاستقلالُ التامُّ، والعداءُ الصريحُ للاستكبارِ العالميِّ، والدفاعُ عن قضايا المسلمينَ المستضعفينَ. هذه الصفاتُ هي تجسيدٌ حيٌّ لِـ"لا يكونوا أمثالكم" في الإعراضِ والخذلانِ.

      إنّ هذا الانبعاثَ لم يكنْ مجردَ تغييرٍ في نظامِ الحكمِ، بل كانَ تغييراً في الهويةِ والرسالةِ، حيثُ أعلنتْ إيرانُ الجديدةُ عن هويتها الإسلاميةِ الثوريةِ، وتبنّتْ قضيةَ الأمةِ الإسلاميةِ ككلٍّ، ورفعتْ شعارَ الدفاعِ عن المستضعفينَ في العالمِ.

4.2 إيران: قيادةُ الدفاعِ عن الإسلامِ والمسلمينَ في مواجهةِ الصهيونيةِ والمعتدينَ

       منذُ قيامها، وضعتِ الجمهوريةُ الإسلاميةُ الإيرانيةُ القضيةَ الفلسطينيةَ، ومواجهةَ الكيانِ الصهيونيِّ، في صدارةِ أولوياتها، مُعلنةً عن ذلكَ بوضوحٍ وصراحةٍ لا لَبسَ فيهما. هذا الموقفُ يُعدُّ ترجمةً عمليةً لِروحِ آيةِ الاستبدالِ، وشهادةَ النبيِّ (صلى الله عليه وآله) في أهلِ فارسَ بأنهم "لا يكونوا أمثالكم" في الخذلانِ.

  • دعمُ المقاومةِ الفلسطينيةِ: تُقدمُ إيرانُ الدعمَ السياسيَّ والماليَّ والعسكريَّ لِفصائلِ المقاومةِ الفلسطينيةِ، وتُعدُّ من أبرزِ داعمي القضيةِ الفلسطينيةِ على الساحةِ الدوليةِ، في وقتٍ تُهرولُ فيهِ بعضُ الأنظمةِ العربيةِ نحو التطبيعِ مع العدوِّ. هذا الدعمُ ليسَ مجردَ موقفٍ سياسيٍّ، بل هو تجسيدٌ لِـ"نصرةِ الدينِ" التي تُريدُها الآيةُ.
  • مواجهةُ المشروعِ الصهيونيِّ: لا تكتفي إيرانُ بالدفاعِ عن فلسطينَ فحسبُ، بل تُعلنُ صراحةً عن عداوتها للمشروعِ الصهيونيِّ التوسعيِّ في المنطقةِ، وتُبدي استعدادها لِتحملِ التكاليفِ في سبيلِ مواجهةِ هذا المشروعِ الذي يُهدّدُ الأمنَ والاستقرارَ في المنطقةِ برمتها. هذا الموقفُ الشجاعُ يُقابلُه صمتٌ وتخاذلٌ من قِبلِ بعضِ الدولِ التي يُفترضُ أن تكونَ في طليعةِ المدافعينَ عن القضيةِ.
  • دفاعٌ عن المستضعفينَ: لم يقتصرْ دورُ إيرانَ على مواجهةِ الصهيونيةِ، بل امتدّ لِيشملَ دعمَ حركاتِ المقاومةِ في لبنانَ واليمنَ والعراقِ، التي تُعاني من اعتداءاتٍ خارجيةٍ وتدخلاتٍ تُهدّدُ استقرارَها وسيادتَها. هذا الدعمُ يُعكسُ التزاماً بالمبدأِ القرآنيِّ بـنصرةِ المستضعفينَ، والذي يُعدُّ من أهمِّ مقاصدِ الدينِ الحنيفِ.
  • الثباتُ في وجهِ العقوباتِ والضغوطِ: إنَّ الثمنَ الذي تدفعُهُ الجمهوريةُ الإسلاميةُ في إيرانَ لِثباتِها على مبادئها هو عقوباتٌ اقتصاديةٌ خانقةٌ، وحصارٌ سياسيٌّ وإعلاميٌّ غيرُ مسبوقٍ. ومع ذلك، لم تتراجعْ إيرانُ عن مواقفها، بل ازدادتْ قوةً وصموداً، مما يُشيرُ إلى أنَّ هذهِ الأمةَ هي مصداقٌ لِـ"لو كانَ الإيمانُ عندَ الثريا لتناولَهُ رجالٌ من فارسَ"، فالمعركةُ هنا ليستْ ماديةً فحسبُ، بل هي معركةُ إرادةٍ وإيمانٍ.

4.3 الخذلانُ العربيُّ والتطبيعُ الذليلُ: مصداقٌ للتولّي في الآيةِ

      في مقابلِ الدورِ الإيرانيِّ في الدفاعِ عن الإسلامِ والمستضعفينَ، تبرزُ ظاهرةُ التطبيعِ والتخاذلِ لِبعضِ الأنظمةِ العربيةِ، التي اختارتْ طريقَ الذلِّ والخيانةِ لقضايا الأمةِ، وهرولتْ نحو إقامةِ العلاقاتِ مع الكيانِ الصهيونيِّ. إنّ هذا السلوكُ يُمكنُ اعتبارُهُ مصداقاً حديثاً لِـ"التولّي" الذي تُحذّرُ منهُ الآيةُ الكريمةُ.

  • التخلي عن القضيةِ المركزيةِ: القضيةُ الفلسطينيةُ كانتْ ولا تزالُ القضيةَ المركزيةَ للأمةِ الإسلاميةِ. ولكنَّ بعضَ الأنظمةِ العربيةِ قد تخلّتْ عن هذه القضيةِ، وساهمتْ في تهميشها، بل وعملتْ على تجريمِ المقاومةِ وتشويهِ صورتها، مُفضّلةً مصالحها الضيقةَ على حسابِ المبادئِ والأخوةِ الإسلاميةِ.
  • التحالفُ مع العدوِّ: الأكثرُ إيلاماً هو أنَّ هذا التولّي لم يقتصرْ على الصمتِ والتقاعسِ، بل وصلَ إلى حدِّ التحالفِ العلنيِّ والسرّيِّ مع الكيانِ الصهيونيِّ، والتعاونِ معهُ في مجالاتٍ مختلفةٍ، وحتى في مواجهةِ القوى التي تُدافعُ عن الأمةِ ومقدّساتها. هذا التحالفُ يُعدُّ خيانةً للهِ ورسولهِ والمؤمنينَ.
  • نتائجُ التطبيعِ: إنَّ التطبيعَ لم يُأتِ لِشعوبِ هذه الدولِ إلا مزيداً من الذلِّ والتبعيةِ، ولم يُغيّرْ من واقعِ الظلمِ والقهرِ الذي يُمارسُهُ الكيانُ الصهيونيُّ ضدَّ الشعبِ الفلسطينيِّ. بل زادَ من قوتهِ ونفوذهِ في المنطقةِ، وشجعهُ على مزيدٍ من الاعتداءاتِ والانتهاكاتِ.
  • "ثم لا يكونوا أمثالكم": هذا التناقضُ الصارخُ بينَ من يحملُ رايةَ الدفاعِ والتضحيةِ، ومن يختارُ طريقَ التخاذلِ والذلِّ، هو تجسيدٌ حيٌّ لِـ"ثم لا يكونوا أمثالكم". فبينما يرتفعُ شأنُ قومٍ بتمسكهم بدينهم ومبادئهم، يتضاءلُ شأنُ آخرينَ بسببِ إعراضهم عن الحقِّ وتولّيهم عن مسؤولياتهم.

      إنّ هذه المقارنةَ ليستْ لِلدعوةِ إلى التفرقةِ، بل هي لِتسليطِ الضوءِ على حقيقةٍ قرآنيةٍ ونبويةٍ، تُشيرُ إلى أنَّ من يتولّى عن الحقِّ، فإنَّ اللهَ سيستبدلُهُ بقومٍ آخرينَ أشدَّ منهُ التزاماً وثباتاً.

خامساً: آفاقُ المستقبلِ: وعدُ اللهِ لا يتخلّفُ

5.1 الانتصارُ مرهونٌ بالثباتِ على خطِّ الولايةِ والمقاومةِ:

     من خلالِ ما سبقَ، يتّضحُ جلياً أنَّ سنّةَ الاستبدالِ الإلهيِّ هي سنّةٌ جاريةٌ في الأممِ، وأنّ اللهَ تعالى لا يُغيّرُ ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم. إنّ الانتصارَ في المعركةِ الحضاريةِ الراهنةِ بينَ الحقِّ والباطلِ، وبينَ الاستكبارِ والاستضعافِ، ليسَ مرهوناً بكثرةِ العددِ أو العدّةِ فحسبُ، بل هو مرهونٌ بـالثباتِ على خطِّ الولايةِ الإلهيةِ، وخطِّ المقاومةِ والصمودِ.

  • الولاءُ للهِ ورسولهِ وأهلِ البيتِ (عليهم السلام): إنّ التفسيرَ الشيعيَّ لِـ"التولّي عن ولايةِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام)" يُلفتُ انتباهَنا إلى أنَّ البوصلةَ الحقيقيةَ للفلاحِ هي التمسكُ بخطِّ الإمامةِ، الذي هو امتدادٌ لِخطِّ النبوةِ، وهو الحبلُ الممدودُ من اللهِ تعالى لِهدايةِ البشريةِ. فمتى تمسّكتْ أمةٌ بهذا الحبلِ، ثبّتَ اللهُ أقدامها ونصرها.
  • المقاومةُ كخيارٍ استراتيجيٍّ: إنَّ ما تُقدّمهُ الجمهوريةُ الإسلاميةُ في إيرانَ، وحركاتُ المقاومةِ في المنطقةِ، من نموذجٍ في الصمودِ والمواجهةِ، يُثبتُ أنَّ الخيارَ الاستراتيجيَّ في مواجهةِ الظلمِ هو المقاومةُ، وليسَ الاستسلامَ أو التطبيعَ. فالمقاومةُ هي التي تُعيدُ الكرامةَ للأمةِ، وتُبقي جذوةَ الأملِ مشتعلة.

5.2 مسؤوليةُ الأمةِ ودروسُ عاشوراءَ:

     في ظلِّ هذهِ الحقائقِ، تُصبحُ مسؤوليةُ الأمةِ أجمعَ جسيمةً. إنَّ دروسَ عاشوراءَ هنا تُبرزُ أهميتَها القصوى: فكما أنَّ الإمامَ الحسينَ (عليه السلام) لم يَتولَّ عن الحقِّ في أحلكِ الظروفِ، وقَدّمَ أسمى آياتِ التضحيةِ والفداءِ، فإنّ على الأمةِ اليومَ أن تستلهمَ منهُ روحَ الثباتِ، ورفضَ الذلِّ، وتقديمَ التضحياتِ في سبيلِ الحقِّ.

الخاتمة

      إنّ آيةَ الاستبدالِ الإلهيِّ في سورةِ محمدٍ (صلى الله عليه وآله) ليستْ مجردَ نصٍّ قرآنيٍّ يُقرأُ للتبرّكِ، بل هي قانونٌ كونيٌّ وسنّةٌ إلهيةٌ تُحكمُ مسارَ الأممِ والشعوبِ. لقد أثبتتْ النصوصُ التفسيريةُ، سواءٌ السنيةُ أو الشيعيةُ، أنَّ المقصودَ بـ"قومٍ غيركم" هم أهلُ فارسَ (إيرانُ اليومَ)، الذينَ شهدَ لهم النبيُّ (صلى الله عليه وآله) بالهمّةِ والإيمانِ الراسخِ، حتى لو كانَ الدينُ معلّقاً بالثريا.

     لقد تجلّتْ هذه النبوءةُ عبرَ التاريخِ الإسلاميِّ في دورِ الفرسِ في حفظِ العلومِ وتطويرِها، وتَبنّيهم لِخطِّ الولايةِ لأهلِ البيتِ (عليهم السلام). وفي عصرنا الراهنِ، برزتِ الجمهوريةُ الإسلاميةُ في إيرانَ كمصداقٍ حيٍّ لهذه الآيةِ، حيثُ قامتْ على مبادئِ الإسلامِ الأصيلةِ، واتّخذتْ موقفاً راسخاً في الدفاعِ عن الإسلامِ والمسلمينَ، خاصةً في مواجهةِ المشروعِ الصهيونيِّ، ودعمِ حركاتِ المقاومةِ في المنطقةِ، مُتحملةً في ذلكَ أشدَّ الضغوطِ والعقوباتِ.

     وفي المقابلِ، يُقدّمُ خذلانُ بعضِ الدولِ العربيةِ وتطبيعها مع الكيانِ الصهيونيِّ مصداقاً مُؤلماً لـ**"التولّي" عن الحقِّ**، مُبيّنةً الفارقَ الشاسعَ بينَ من يتمسكُ بمبادئِ العزةِ والكرامةِ، ومن يختارُ طريقَ الذلِّ والتبعيةِ.

     إنّ هذا البحثَ يُؤكدُ أنَّ وعدَ اللهِ لا يتخلّفُ، وأنّ النصرَ والتمكينَ مرهونٌ بالثباتِ على خطِّ الولايةِ والمقاومةِ، وأنَّ الأمةَ مدعوّةٌ لِاستلهامِ دروسِ عاشوراءَ ونحن على أعتابها، في التضحيةِ والإصلاحِ الذاتيِّ، وذبحِ قوى الانحرافِ في الذاتِ، لِتكونَ جديرةً بلقاءِ اللهِ محقّةً، وليُحقّقَ اللهُ فيها وعدَ الاستبدالِ لِصالحِ من يصدقُ في التزامهِ بدينهِ ومبادئه. فالمستقبلُ لِمن يحملُ رايةَ الحقِّ بصدقٍ وإخلاصٍ، ولسوفَ يعلمُ الذينَ ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبونَ، وقد توصل البحث إلى جملة من النتائج والتوصيات جاءت على النحو الآتي:

أولاً: النتائج

1.     أظهر البحثُ توافقاً كبيراً بينَ التفاسيرِ السنيةِ والشيعيةِ في تحديدِ مصداقِ "قومًا غيركم" في آيةِ الاستبدالِ (سورة محمد: 38) بـ"أهلِ فارسَ"، مستدلاً بأحاديثَ نبويةٍ شريفةٍ تُشيرُ إلى سلمانَ الفارسيِّ وقومه، وشهادةِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله) لهم بالهمّةِ والإيمانِ الراسخِ. هذا ما ورد في (الجامع تفسير القرآن لابن وهب، ص 66)، و(سنن الترمذي، ج 5، ص 60)، و(جامع البيان للطبري، ج 5، ص 310)، و(تفسير ابن أبي حاتم، ج 10، ص 3299)، و(صحيح ابن حبان، ج 16، ص 63)، و(الكشاف للزمخشري، ج 3، ص 540)، و(تفسير الرازي، ج 28، ص 76)، وغيرها.

2.     تجلّتْ هذه النبوءةُ في الواقعِ التاريخيِّ لِأهلِ فارسَ الذينَ أسهموا إسهاماً عظيماً في حفظِ العلومِ الإسلاميةِ وتطويرِها في مختلفِ المجالاتِ الدينيةِ والدنيويةِ، بما في ذلكَ علومُ القرآنِ والحديثِ والفقهِ واللغةِ، وهو ما يُعدُّ مصداقاً لِقولِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله): "لو كانَ الدينُ عندَ الثريا لتناولَهُ رجالٌ من فارسَ".

3.     يُمكنُ اعتبارُ قيامِ الجمهوريةِ الإسلاميةِ الإيرانيةِ انبعاثاً لِدورِ أهلِ فارسَ، حيثُ اتخذتْ موقفاً استقلالياً وثورياً في مواجهةِ الاستكبارِ العالميِّ، والتزمتْ بالدفاعِ عن قضايا الإسلامِ والمستضعفينَ، لا سيما القضيةَ الفلسطينيةَ، مُحققةً بذلكَ وصفَ "لا يكونوا أمثالكم" في التولي والتخاذل.

4.     في المقابلِ، يُشكلُ خذلانُ بعضِ الدولِ العربيةِ لقضايا الأمةِ وتطبيعها مع الكيانِ الصهيونيِّ مصداقاً لِـ"التولّي" الذي حذّرتْ منهُ الآيةُ، مما يُبرزُ الفارقَ بينَ من يتمسكُ بالعزةِ الإسلاميةِ ومن يختارُ طريقَ الذلِّ والتبعيةِ.

5.     لا تقتصرُ دلالةُ الآيةِ على الجانبِ السياسيِّ، بل تُشيرُ أيضاً إلى بُعدٍ روحيٍّ عميقٍ، حيثُ يُعدُّ التولي عن ولايةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) من أسبابِ الاستبدالِ، كما وردَ في تفسيرِ القميِّ (ج 2، ص 309)، مما يُعطي للآيةِ دلالةً أعمقَ في فهمِ مسارِ الأمّةِ.

ثانياً: التوصيات

1.     يُوصي البحث بتكثيفِ الدراساتِ والبرامجِ التوعويةِ التي تُسلطُ الضوءَ على السننِ الإلهيةِ في القرآنِ الكريمِ والسنةِ النبويةِ، وبخاصةٍ سنّةُ الاستبدالِ الإلهيِّ، لِتعزيزِ فهمِ المسلمينَ لدورهم ومسؤولياتهم في حفظِ الدينِ ونصرتِهِ.

2.     دعوة الحوزاتِ العلميةِ والجامعاتِ الإسلاميةِ لِإجراءِ المزيدِ من البحوثِ والدراساتِ المقارنةِ بينَ التفاسيرِ المختلفةِ، لِإبرازِ النقاطِ المشتركةِ التي تُوحّدُ صفوفَ الأمةِ في مواجهةِ التحدياتِ الراهنةِ.

3.     التشديدُ على أنَّ خيارَ المقاومةِ والصمودِ في وجهِ الظلمِ والعدوانِ هو الخيارُ القرآنيُّ والنّبويُّ، وهو ما يُؤدي إلى النصرِ والتمكينِ، خلافاً لِخيارِ الاستسلامِ والتطبيعِ الذي يُؤدي إلى الذلِّ والهوانِ.

4.     تشجيعُ الباحثينَ على تحليلِ الظواهرِ السياسيةِ والاجتماعيةِ المعاصرةِ من منظورٍ قرآنيٍّ وسننيٍّ، لِكشفِ سننِ اللهِ الجاريةِ في الواقعِ، ولِتقديمِ حلولٍ وبدائلَ إسلاميةٍ أصيلةٍ.

المصادر والمراجع

1.     القرآن الكريم.

2.     ابن أبي حاتم، عبد الرحمن بن محمد بن إدريس. (ت 327 هـ). تفسير القرآن العظيم تفسير ابن أبي حاتم. تحقيق: أسعد محمد الطيب. الطبعة الثالثة، 1419 هـ.

3.     ابن الجوزي، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي. (ت 597 هـ). زاد المسير في علم التفسير. تحقيق: عبد الرزاق المهدي. دار الكتاب العربي، بيروت، 1422 هـ.

4.     ابن حبان، محمد بن حبان بن أحمد. (ت 354 هـ). صحيح ابن حبان. تحقيق: شعيب الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1414 هـ.

5.     ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن. (ت 571 هـ). تاريخ مدينة دمشق. تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي. دار الفكر، بيروت، 1415 هـ.

6.     البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود. (ت 516 هـ). معالم التنزيل في تفسير القرآن (تفسير البغوي).. دار طيبة، الرياض، الطبعة الرابعة، 1417 هـ.

7.     البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود. (ت 516 هـ). شرح السنة. تحقيق: شعيب الأرنؤوط، زهير الشاويش. المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403 هـ.

8.     الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى. (ت 279 هـ). سنن الترمذي. تحقيق: بشار عواد معروف. دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1998م.

9.     الرازي، فخر الدين محمد بن عمر. (ت 606 هـ). التفسير الكبير (مفاتيح الغيب). الطبعة الثالثة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1420 هـ.

10. الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر. (ت 538 هـ). الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل. دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1407 هـ.

11. الشيخ الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن. (ت 460 هـ). التبيان في تفسير القرآن. تحقيق: أحمد قصير العاملي. دار إحياء التراث العربي، بيروت، د.ت.

12. الطبري، محمد بن جرير. (ت 310 هـ). جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري). تحقيق: أحمد محمد شاكر. مؤسسة الرسالة، 1420 هـ.

13. القمي، علي بن إبراهيم. (ت 307 هـ). تفسير القمي. تحقيق: السيد طيب الموسوي الجزائري. مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر، قم، الطبعة الرابعة، 1404 هـ.

14. الواحدي النيسابوري، أبو الحسن علي بن أحمد. (ت 468 هـ). الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (تفسير الواحدي). تحقيق: صفوان عدنان داوودي. دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1415 هـ.

15. وهب بن منبه، عبد الله بن وهب المصري القرشي. (ت 197 هـ). الجامع تفسير القرآن. تحقيق: عبد المجيد محمود عبد المجيد. مكتبة وهبة، القاهرة، 2003م.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=204482
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 06 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 06 / 22