• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : إبراهيم الناجي الكوفي.. درويش الدعوة وصوفي المنافي .
                          • الكاتب : رياض سعد .

إبراهيم الناجي الكوفي.. درويش الدعوة وصوفي المنافي

ينحدر فقيدنا الراحل، السيد إبراهيم الناجي الكوفي، من الجنوب العراقي الأصيل، من محافظة ميسان، تلك الأرض التي تمتزج في سهولها وجبالها وأهوارها رائحة التاريخ وعراقة المجد، وتحمل في طينها مآثر مملكة ميسان العربية، وذاكرة الجماجم الطاهرة لأشراف بني هاشم وأحرار العرب... ؛  فقد كانت ميسان، وحتى الأمس القريب، معقل الأسود، ومنبع الثائرين، ومرتع الفرسان، ومنبع الكرماء والأصفياء، ومنها انطلق الفقيد في مسيرته المباركة.

وُلد السيّد إبراهيم الناجي في أسرةٍ علوية عريقة، معروفةٍ بفضلها وتقواها واحتشامها، ومنذ نعومة أظفاره انخرط في صفوف الحركة الإسلامية، وتحديدًا حزب الدعوة الإسلامية، مدفوعًا بحماسة المراهقين واندفاع الشباب المؤمن... ؛ وتصدّى، بشجاعةٍ نادرة، لمخططات حزب البعث الإجرامي، وكان في صفوف المجاهدين، ينافح عن هموم شعبه، ويتفاعل مع قضايا الأمة وتحديات المرحلة.

لم تلبث عيون البعث أن رصدته، فانقضّت عليه أجهزة القمع، وزُجّ في غياهب السجون، وتعرّض لأبشع صنوف التعذيب الجسدي والنفسي... ؛  لكنه بقي صامدًا، شامخًا، غير واهن، بل زادته المحنة إصرارًا وعزيمةً على مواصلة الطريق، متقدًا بالإيمان، متحديًا الباطل، مشعلًا جذوة الوعي في العقول الغافلة والضمائر الميتة .

اذ قاد المظاهرات الشبابية المناهضة للطغيان، وعقد حلقات الوعي الديني والسياسي، وسار خلف راية الشهيد محمد باقر الصدر، ناشرًا أفكاره، ومحاورًا البعثيين والشيوعيين والقوميين بحكمةٍ وموعظة حسنة، ملتزمًا في سلوكه بأخلاق الصالحين .

وبعد استشهاد الصدر، واشتداد حملات القمع البعثية ضد المؤمنين، خاصة من أتباع أهل البيت، غادر السيّد إبراهيم الكوفة مكرهًا، التي جاءها مع أبيه، وقطنا فيها ليكونا إلى جوار العلماء والعتبات المقدسة، ويواصل نهله من منابع الدين... ؛ نحو المنافي .

 في الغربة، عانى مرارة التهجير وقسوة المنفى، لكنه لم يتراجع، ولم يتلكأ... ؛ فقد بقي كما هو: مجاهدًا مخلصًا، ثابتًا على المبادئ، لم تَفلّ عزيمته المخاطر الدكتاتورية ولا التهديدات البعثية... ؛  ومضى في طريقه، مشغولًا بقضاء حوائج الناس، مغيثًا للمكروبين، ساعيًا في حاجات العراقيين في المهاجر والمنافي.

وبعد سقوط النظام البعثي عام 2003، عاد السيّد إلى وطنه، ومارس دوره التبليغي والديني والسياسي، موظفًا خبرته في خدمة الناس، دون أن تسجَّل عليه أي شبهة مادية أو مصلحة دنيوية... ؛ فقد كان زهده شبيهًا بزهد أبي ذر الغفاري، لا يملك من حطام الدنيا شيئًا، لم يمتلك عقارًا ولا أموالًا، وعاد إلى وظيفته التي  طرد منها بقرار صدامي جائر ... .

وقد قال فيه الكاتب سعيد العذاري:"عملة نادرة... ذكرنا بالدعاة الأوائل الذين كانوا ملائكة يمشون على الأرض؛ حمل الإسلام فكرًا وعاطفة وسلوكًا؛ كرس كل وقته لخدمة الناس، لم يسعَ إلى منصب، وإن ترشح للبرلمان فكان ذلك تلبيةً لطلب الناس، لا حبًا في الدنيا."

لقد كان بسيطًا، كأنه من دراويش الصوفية، نقي السريرة، طاهر القلب، لا يُغريه منصب ولا يُرهبه كرسي... ؛ كان يحب الفقراء، ويؤثر مجالستهم على علية القوم، ويخدم الناس بصمت، حتى أن مكتبه المتواضع كان مزدحمًا بالملفات التي يعالجها دون مقابل.

نعم بعد الحاح الناس عليه , وبعد ما لمسوه من اخلاقه العالية ونزاهته الفريدة وطيبته النادرة فقد كان بريئا كالأطفال , وطيبا الى حد السذاجة احيانا , قرر الترشيح للبرلمان في احدى الدورات الا انه لم يستخدم اموال الدولة او وسائل اعلامها ,  كما انه لم يتوسل احدا او يستجدي دعما .

ومن شواهد كرم خلقه وطيبته ونقاء سريرته ، أنه خلال ذروة الاحتقان الطائفي والعمليات الارهابية ، التقى في "كراج العلاوي" ثلاثة رجال من الفلوجة، كانوا يقصدون بغداد لقضاء معاملة في احدى الدوائر الحكومة ... ؛  عرض عليهم المساعدة، واصطحبهم إلى بيته المستأجر في منطقة البلديات ، وقدم لهم الطعام، وباتوا عنده، ثم ودّعهم صباحًا مطمئنًا عليهم... ؛ و لقد انبهروا من سماحته وطيبته، وقالوا: هذا رجل من زمنٍ آخر، لا يشبه رجال القرن الحادي والعشرين - ( وزلم هل الوكت ) - .

وكان الفقيد يُفرغ ما في جيبه للفقراء، بل كان يقترض من البنوك لقضاء حوائج الناس، حتى أصبح راتبه لا يغطي ديونه، وكان أولاده يدفعون من مالهم  الخاص لعلاجه احيانا ... ؛  ومع هذا، لم يُبدِ ضعفًا، ولم يبدِ شكوى.

إبراهيم الناجي الكوفي : عابر الدنيا بخفّ الصالحين

أما الكاتب رياض الفرطوسي فقال فيه: "لم يكن سيد إبراهيم الناجي، أبا محمد، رجلًا عابرًا في الحياة، بل كان ممن يعبُر الدنيا بأثرٍ لا يُمحى. كان صوفيّ الهوى، لا يرى في الدنيا سوى معبر إلى رضا الله. عاش كما يعيش الدراويش: برّاني المظهر، داخليّ البصيرة، نزيهًا، طاهر اليد، شريفًا، لا يُجيد التراجع، ولا يعرف أنصاف المواقف."

ومع أنه كان من أوائل المنتمين إلى حزب الدعوة، إلا أنه لم يتلوّن بلون السلطة، ولم يغترّ بزينة المناصب، ولم يحتمِ بأسوار الخضراء، بل بقي على حاله، خادمًا للناس من بيته المستأجر.

أما الكاتب قصي الموسوي، فقد رثاه قائلًا :"بعض الناس يمرّون بيننا كأنهم عطر أصيل، لا تعبث به الريح، ولا يغيب عن الذاكرة... كان هادئًا، نقيًّا، لا يشبه ضجيج هذا العالم... خفيفًا على الأرض، ثقيلًا في ميزان الخير... خدم الناس بصمت، وكان جوهره إخلاصًا لا يعرف النفاق..."

لقد كان السيد الناجي، رحمه الله، رجلًا نادر المثال، لا تُدنّس يداه بمعصية، ولا تساوم روحه على مبدأ، كأن ملك الموت تردّد كثيرًا قبل أن يقترب من حِماه، وكأنما حمله برفق إلى خزائن السماء، تحفةً ثمينةً لا تُقدّر بثمن.

فيا من حياؤك يخجل منه الحياء، ويا من سهرك أطعم اليتيم، وبياض سريرتك أنار القلوب، نم قرير العين... ؛  لقد كنتَ بين الأحياء شهيدًا، وبين الموتى حًّيا.

نمْ هانئًا، فكم من الأرواح كانت تستظلّ بحنانك ؟

وكم من القلوب قد أضاءها نورك ؟

وكم من الحكايا ستُروى عنك طويلا ؟




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=204030
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 06 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 06 / 16