• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : تحليل ظاهرة "الزَّعْل" في المجتمع العراقي: جذورها، تجلياتها، وآليات التعاطي معها .
                          • الكاتب : رياض سعد .

تحليل ظاهرة "الزَّعْل" في المجتمع العراقي: جذورها، تجلياتها، وآليات التعاطي معها

لا يُمكن فهم ظاهرة "الزَّعْل" في المجتمع العراقي بمعزلٍ عن السياقات الاجتماعيَّة والنفسيَّة المُعقَّدة التي تُحيط بالفرد العراقي ، فالأزمات المُتراكمة التي يعيشها – بدءًا من الضغوط الاقتصاديَّة والسياسيَّة، مرورًا بالعلاقات الأسريَّة الهشَّة، ووصولًا إلى انهيار الثقة في المُحيط العام – تُحوِّل حياته إلى سلسلة من التحديات والضغوطات اليوميَّة التي تستنزف طاقته النفسيَّة، وتدفعه إلى كَبْت مشاعره كآلية دفاعيَّة لـ"البقاء".

وهنا تبرز إشكاليَّة الاختناق العاطفي؛ إذ يضطر الفرد إلى ارتداء أقنعة مزيفة تُناقض طبيعته، فيُظهر القوة حيث يُخفي الضعف، ويُمارس اللامبالاة رغم شدة تأثُّره، كي يُوائم بين واقع مُتقلِّب وذاتٍ مُنهَكة... ؛ وهذا التراكمُ من الكبت يولِّدُ حالةً من التوتُّر المزمن، تُحوِّل الفرد إلى قنبلةٍ عاطفيَّةٍ قابلة للانفجار لأتفه الأسباب، أو إلى كائنٍ شديد الحساسيَّة يرى في العابرِ جُرحًا، وفي اللفتة البسيطةِ إهانةً ...!!

 تشعُّب الظاهرة: بين الصمت والعنف 

لا يقتصر "الزَّعْل" على نمطٍ واحد، بل يتشعَّبُ بحسب الشخصيَّة العراقيَّة المُمزَّقة بين الرومانسيَّة المُفرطة والقسوة المُفاجئة... ؛  فثمَّة مَنْ يَزْعَلُ "زَعْلَ الحِكْمَة"، فينسحبُ بهدوءٍ لاذعٍ كالشمس التي تختفي خلف السحاب دون إنذار، مُتجنبًا الصدام، لكنه يُخفي تحت صمتهِ بحرًا من الأسئلة الجارحة: "لَمْ لمْ تَشْعُرُ بي؟ لَمْ لمْ تُنقذني من ضياعي ؟ ولماذا لم تساعدني ؟"... ؛ و هذا النوعُ من الزعلِ يبدأُ صغيرًا، ثمَّ يَتَضخَّمُ ككرة الثلج مع تكرار الهفوات والاخطاء والحماقات والتجاوزات ، حتى يصير الصمتُ لغةً أخيرةً لا رجعةَ فيها... ؛  وفي المقابل، هناك "زَعْلُ العاصفة" الذي يَندلعُ بالصياح والشتائم، ويُختتمُ بالقطيعة أو العراك، كأنَّ المشاعرَ المُختنقةَ تبحثُ عن منفذٍ دراماتيكي لتُعلنَ عن وجودها. 

 الأسباب: جروحٌ تبحثُ عن كلمة 

لا تنحصر أسباب "الزَّعْل" في السطحيات، بل هي تعكس جراحًا عميقةً في الذات الجمعيَّة... ؛  فبعضها ينبعُ من الإحساس المُتكرر بالخذلان ، خاصةً إذا جاءَ من أقرب الناس، كصديقٍ يهربُ عند الشدائد، أو قريبٍ يستغلُّ الطيبةَ لتحقيق مصلحة... ؛  وبعضها الآخر يرتبطُ بهشاشةِ الكبرياء في مجتمعٍ يربطُ القيمةَ الذاتيَّة بمدى "الاحترام" الظاهر، مما يجعل أيَّ لفظةٍ أو إيماءةٍ – حتى لو غير مقصودة – قادرةً على تحويلِ الإنسان إلى حطام... ؛  ولا ننسى دور "الحساسية المفرطة" التي تُضخِّمُ المواقفَ العاديَّة، فتُحوِّلُ نكتةً بسيطةً إلى إهانةٍ، وتأخيرًا بسيطًا إلى إهمالٍ مُتعمَّد. 

 النتائج: حين يصيرُ الزعلُ جدارًا 

إذا كان "الزَّعْلُ" في بدايتهِ نداءً صامتًا للانتباه، فإن استمرارهُ يُصبحُ جدارًا عازلًا بين البشر... ؛  فالبعضُ يتحوَّلُ إلى "أسيرِ كبريائه"، يرفضُ الحوارَ حتى مع رغبتهِ الدفينة في المصالحة، مُعتقدًا أن الاعتذارَ اعترافٌ بالهزيمة... ؛  وآخرون يقررون "الهجرةَ العاطفيَّة"، فيُغادرون العلاقةَ دون إعلان، كأنهم يُعيدون تمثيلَ مشهد الخذلان الوطني على المسرح الشخصي... ؛  وهنا تكمنُ المفارقة: فكلما زادت حدَّةُ الزعل، زادت الحاجةُ إلى الحب، لكنَّ الكبرياءَ يُحوِّلُ هذه الحاجةَ إلى عداء. 

الحلول: هل يكفي أن نحب؟ 

الحبُّ وحدهُ لا يشفي إذا لم يُرافقهِ وعيٌ بجذور الألم... ؛  فالمجتمعُ العراقي يحتاجُ إلى ثقافةٍ جديدةٍ تُعيدُ تعريف "الرجولة" بعيدًا عن القمعِ العاطفي، وتُشجِّعُ على الحوارِ بدلَ الصمت، والاعترافِ بالضعفِ بدلَ التماسكِ المزيَّف... ؛  كما أنَّ التجاوزَ عن الزعلِ يتطلَّبُ شجاعةً من الطرفين: شجاعةَ المُخطئ في الاعتذارِ دون تبريرات، وشجاعةَ ( الشخص الذي يزعل من هذا او ذاك )  في منحِ فرصةٍ ثانيةٍ دون شماتة... ؛  فالحلُّ يبدأُ عندما نتعلمُ أنَّ "الزَّعْلَ" ليس عارًا، بل جرسُ إنذارٍ يُخبرنا أنَّ شيئًا في علاقاتنا يحتاجُ إلى إصلاح. 

الخاتمة: الزَّعْلُ... لغـةٌ بلا حروف 

ربما يكون "الزَّعْلُ" تعبيرًا مُشوَّهًا عن حاجةٍ ماسَّةٍ إلى الحنانِ والفهم ... ؛ فهو لغةً بلا كلماتٍ يختلطُ فيها الألمُ بالأمل... ؛  وهو في النهايةِ ليس حكرًا على المجتمع العراقي، لكنَّ خصوصيتهُ تكمنُ في كونهِ مرآةً تعكسُ تراكمَ الأزماتِ في بلدٍ يُصارعُ من أجل البقاء... ؛  فكما يحتاجُ الفردُ إلى أن يُقال له: "أنا أسمعُك"، يحتاجُ المجتمعُ إلى مَنْ يسمعُ أنينَهُ الخفيَّ قبل أن يتحوَّلَ إلى زعْلٍ لا يُشفى . 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=202945
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 05 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 05 / 12