ينظر كثير من الناس للمثقف على انه الشخص المتعلم او الحامل للشهادة العليا او السياسي او الشاعر او الكاتب او ذاك الذي يحفظ اسماء الكتاب والعلماء ويحفظ اقوالهم.
هذه الفهم لمعنى المثقف هو فهم ساذج, لا ينم عن معرفة ودراية بالمعنى الحقيقي للثقافة والمثقف, فالثقافة هي سلوك اكثر مما هي علم, وهي منهج حياة اكثر مما هي دراسة, فقد تجد شخصا بسيطا ولم يحظى بتعليم جيد لكنه مثقف.
يقول الاعلامي الدكتور نجم عبد الكريم "إن المثقف هو من يقلص اكبر قدر من السلبيات, ويوسع دائرة الايجابيات, قد يكون فلاحا او قد يكون نجارا او قد يكون عاملا او قد يكون وزيرا او قد يكون اميرا"
هذه النظرة للمثقف جعلت بعض المتحذلقين من الذين يملكون مهارات لغوية او خطابية او شعرية او كتابية يتصدرون المشهد, ويصدروا انفسهم على انهم متنورو المجتمع, وهم سادته وقادته, وان رأيهم السداد, وقولهم الفصل, وفهمهم النهاية, فصاروا يشكلون لوبيات ومجاميع تدعم بعضها البعض, وتقدم بعضها البعص في حلقات ضيقة وخاصة وانطوائية, ولا يسمحون لاحد ان يلجها, فكل من هو غيرهم هو قاصر, متندي المرتبة حسب رايهم, واخذ هؤلاء المتقمصين من التواصل الاجتماعي والمهرجات والفعاليات الخاصة والعامة وسيلة لدعم بعضهم البعض, فيعمدون لإنشاء حسابات وهمية, وينشرون نشاطات احدهم ويشاركونها, ويعلقون عليها حتى يظن الظان ان هذا الشخص هو فهيم الزمان, وطبيب العلل, وبلسم الجراح.
اكاد اجزم اني اول من اطلق لقب شعراء الكيا بعد سقوط حكم البعث الدموي عام 2003, واجزم اني لي شهادة براءة اختراع هذا اللقب, والكيا لمن لا يعرفها هي سيارة نقل عام, بأحد عشر راكبا كانت قد عملت في العراق نهاية التسعينات, وخبا بريقاها بعد دخول السيارات الحديثة كالستاريكس واليوكن والهايس.
ان فكرة شعراء الكيا هي ان يقوم شخص له قدرة بسيطة على كتابة الشعر, باستئجار سيارة نوع كيا ويأخذ فيها اصدقاءه للمنتديات, وحين يصلون الى مقاعد القاعة يتفرقون بينها, ويتوزعون وفقط خطة مرسومة ومتفق عليها مسبقا, وما ان يعتلي صاحبهم المنصة حتى تبدأ الفعاليات الكاذبة, حيث ينهض احدهم من هناك وبصورة انفعالية ويصيح "الله الله" اعجابا بالشعر, ثم ينهض اخر من مكان اخر وينادي "اعد اعد" مع تمثيل مشارع جياشة, واظهار الانفعال العاطفي الخدّاع.
هذه الحالة " شعراء الكيا" انتقلت الى كل مفصل من مفاصل الثقافة, حتى صارت لدينا كروبات للكتاب, وللمحللين السياسيين, ولعرفاء الاحتفالات, وللفنانين وغيرهم.
ان مشكلة "المثقف" في بلادنا تكمن في تعاليه على مجتمعه, بل الاساءة له والتنكر لحميد خصاله, والامعان في تشويهه, ولا يسعى هذا المثقف الى رفعة مجتمعه او اعلاء شانه, يقول الكاتب السوداني دفع الله حسن بشير "أما في السياق الشرقي فإذا قابلتم شخصاً ينظُر إلى نفسه على أنه ينتمي إلى طبقة متميزة تعلو على طبقات الشعب الأخرى، وتظن أنها تمتلك وحدها حق تحديد مصائر العامة، وتدبير شؤون الحياة، ولا تمانع هذه الطبقة إذا اضطرتها الأوضاع في فرض وصايتها على الشّعب من خلال ممارسة نوع من الاستبداد المستنير، والأكثر من ذلك تمتلك هذه الطبقة قدراً من ازدراء الطبقات الأخرى خصوصا الطبقة العاملة، والاستعلاء عليها إلى درجة تمكّنها من التصريح بعدم أهلية تلك الطبقات للمشاركة في تحديد شؤون الحياة العامة، فأنتم أمام شخص يمكن أن تطلقوا عليه وبلا تردد لفظ "مُثقّف".
اذا لم يك الفرد المتنور بالمعرفة منغمسا في مجتمعه, عاملا لرفعته, ساعيا لصلاحه, غير منطوٍ ولا متحزب لعصبة من الافراد في دائرة منغلقة, ولا يهين مجتمعه في طروحاته, ولا يسعى بكل جهده ان يكون صوت الناس فلا يمكن ان نطلق عليه مثقفا.
|