هم وأنا أبك لم يكن المسافر الخمسيني الجالس في زاوية النافذة سوى (أحمد التاجر) سرقتني نظراتي إليه لقد أخذت الخمسين سنة منه الكثير، أكيد هو له الآن زوجة وأطفال وعائلة، وأنا أسرق النظرات إليه شعرت بالحرج الشديد، نظرت إلى أولادي الصغار، لا أعرف كيف قرأوا هذا الصمت الذي انتابني للحظات، أعتذر إليهم أحدثهم بما في القلب وكأني أخاطبي:
ـ يا أولادي الصغار لا شيء في الكون يعوضني أباكم، لا تقلقوا على أمكم، لا يمكن لها أن تعيش بغير هواكم.
كنت أنظر إلى (أحمد التاجر) نظرات فضول لا أكثر، ليس فيها من لواعج التوق شيئا ولله الحمد
رجل حاول أن يخطبني من أهلي، يوم أن خطبني أبوكم، وانتهى كل شيء، لم يكن في الأمر عيبا أخجل منه
هل يا ترى يدرك معنى أن أكون أما لأربعة أولاد، طيور من طيور الجنة، من المؤكد هو ينظر إليكم الآن وجميعكم حولي ملأتم حياتي فرحا وسعادة.
هل يعرف أني زوجة الش.. ينهمر الدمع من عيني سخيا كلما أتذكر الرجل الذي عوضني حنان أبي الذي ذوبته الحكومة في أحواض التيزاب.
وأنا ما زلت في الأيام الأولى من حياتي الزوجية، حينها كان يقول لي:
ـ أنت أمانة وطن، كان هناك شيء يدعوني أن أرفع راسي أن أنظر إليه لأتأكد هل هو أحمد، كيف لي أن أنظر إليه؟
بأي لغة ونظرة؟
وبأي قلب وأنا زوجة الشهيد (حسين حميد العبد الله) لا يمكن وأنا أم علي وسجاد وحيدر وأصغر أولادي جعفر.
ولكي أتخلص من عقبات الفضول رحت أداعب أولادي، كان لزوجي فلسفة خاصة في حياته، أشعر في وقتها أنها حفنة كلمات ومع ألم الفقد صارت تعني لي حياة.
تجارب حياتية كبيرة تنير لي حياتي، كان يقول لي مثلا:
ـ (أي إنسان يحزن وأولاده في حضنه جاهل لا يدرك نعمة الله عليه)
لا يمكن للدنيا أن تملك فرحا أكبر من فرحي بأولادي، ليعلم إن كان هو (أحمد التاجر) أو غيره، حين كنت أرزم لزوجي حقيبته ويرتدي ملابس الحشد الشعبي، يسأله الأولاد:
ـ بابا إلى أين تذهب وتتركنا؟
كان يقول لهم أنا ذاهب إلى الطف... إلى كربلاء، لأناصر الحسين عليه السلام، هل تريدوني أن أتركه وحيدا؟
يجيبونه الاطفال بكل مودة ودموعهم تسيل:
ـ لا بابا ما نقبل، اذهب إليه سلم لنا على أبي عبد الله الحسين، نحن نحبه كثيرا يا بابا، هكذا كان يودع أطفاله.
أما أنا كان يودعني بألم أكبر:
ـ إذا استشهدت لا تتركي أولادي في الطف يتامى أب وأم، أبكي كل ما أتذكر هذا الموقف، ومواقف أخرى تجعله يعيش معي، وتعيش معي كل حكمة كان يبذرها في حياتنا الجميلة، واعتزل لإعادتها دائما مع نفسي، (عندما ننظر في المناخ العقلي الذي يعيش فيه كل واحد منا، لا يمكن إلا أن نرى غير كربلاء التي تعيش في كل قلب وعقل وروح)
هل تعلمين أن الأرض تبكي دما حين ينزف على ترابها شهيد؟
المهم عند (تل عبطة) كان الرحيل إلى الطف المبارك، انتبهت وإذا الصمت يسود في العربة والجميع نيام، أولادي يغطون بنوم عميق، فهم لم يتعودوا السفر في القطار، ومع هذا الصمت الموحش كنت أشعر به ينهض من مقعده، يتقرب الي بوجل، يقف أمامي بكامل وجوده، ليسلم ويقول:
ـ أشعر أنك محتاجة إلي، نظرت إليه نعم ابتسمت وقبل أن يقول شيء، قلت:
ـ لدي حاجة عندك، برهة صمت سادت هذا الحوار الملتهب بالمشاعر:
ـ أحمد أريدك دائما أن تتذكره بالرحمة، أن تقرا سورة الفاتحة لزوجي الشهيد حسين حميد العبد الله، أبو أولادي، وبلا شعور مني رحت أوقظهم لأحتضن فيهم عنفوان شهيد.
|