• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : على هامش القيم الاخلاقية .
                          • الكاتب : صالح حميد الحسناوي .

على هامش القيم الاخلاقية

 دارت هذه الحكاية في بداية السبعينات، وفي كربلاء كان هناك شيخ منبري مثقف يصعد منبرا في مرتقى مرموق ويحاور الشباب وأهل الإلحاد بقواعد علمية متينة تحصن الفكر الإسلامي عند الشاب وتصحي المخدوع بالنظريات المستوردة. 
كان الشباب يعشقون محاضراته ويحظرون مجالسه ويتابعون كل معلومة، هذا يعني أن الشاب بعمر القوة يريد أن يتعلم قبل أن يغزوه وهم الثقافة، وعندما يبرز مثقف يحمل من الوعي ما يفيض عن قابليته الفكرية، سينجذب إليه بقوة. 
وفعلا كانت هناك عملية جذب المتلقي ومشاركته وجدانيا، فجأة انقطع الرجل أياما عن المنبر سالوا عنه عرفوا أنه مريض. 
 توهجت الفكرة عند رياض أبو نور فقرر زيارته وبهذا اتفق الشباب جميعهم وحصلوا على العنوان، واللطيف في الحكاية أن الشيخ لم يتفاجأ بهم، جلس أمامهم مرحبا وكأنه كان ينتظرهم، وقرروا أن يفتحوا النقاش معه بلطف المجاملة، أجابهم الشيخ إن العلم يحمل روحا ترفة محبة للجميع، والثقافة تصون هذا العلم من التهور والتعصب، لذلك تكون البنية الفكرية مقبولة من قبل الجميع. 
قال أما الإيمان بالله سبحانه المطلق الكمال يجعل القيم الأخلاقية المطلقة كالصدق والعدل قيما أخلاقية بغض النظر عن وجود الإنسان، الظلم والجور قيم أخلاقية سيئة بالإطلاق. 
يبدو أن الشباب أستولى عليهم الصمت لهذا الإيجاز الذي جعل الأخلاق مطلقة والسيئات مطلقة أيضا، إلى أين يريد أن يصل الشيخ بهؤلاء الشباب؟  هل يريد إيقاظ الأرواح الساكنة؟ 
 يريد أن يحرك بهم الفكر الشبابي الجموح ليدركوا معنى النزاهة حتى مع النفس، وقبل أن يحاوره أحد أكمل الحوار، وكأنه يشتغل على استباقية فكرية قادرة على قراءة ذهنية هؤلاء الشباب، فقال: 
- هذا هو فكر الدين ورؤية الإسلام يمكن أن تؤسس له فلسفيا، التكامل الأخلاقي جزء من الفطرة الإنسانية التي يجدها الإنسان في نفسه والتي تحملها على التميز، بين هذه القيم وإدراك حسن العدل وقبح الظلم، تلك ليست أوصاف ينطقها البشر بل هي قيم ذاتية جوهرية، تمكن أخيرا أحد الشباب من محاورته والتداخل معه، وخاصه أن الشباب عندهم حب القراءة والمطالعة وحب الاطلاع والكتب المستوردة ولهم فائض من المصطلحات التي يتداولونها، لكنه تردد قليلا، شجعه الشيخ وقدمه وطلب منه الكلام ليسال بكل أدب فضيلة الشيخ: 
ـ هل تعني أن من لا يؤمن بالله لا يمكن أن يؤمن بالأخلاق؟ 
 ابتسم الشيخ وأجاب: 
- إذا كنت تعتقد إن وجود الكذب ووجود الإنسان كله صدفة عمياء ما المبرر العلمي والعقلي لاعتقاد وجود مثل هذه القيم الأخلاقية المطلقة، وكيف يمكن تفسير هذا الشعور الفطري عند الناس بتعالي هذه القيم على وجودهم فيدركون الحسن منها ويدركون القبيح.  
قد لا تكون الأمور لحد الآن واضحة أو مقنعة للشباب لكنها تثير الكثير من الأمور الفكرية، قال أحد الشباب معترضا بأدب وهو يشعر بأنهم أيضا يعرفون الأخلاق 
- نحن أناس أبناء بيوت وتربية ولا يمكن إلغاء هذه الصفات بحوار، قال الشيخ  
- نحن نعرف تماما أن الشباب يريدون دائما أن يقدموا أنفسهم إنسانيون يملكون قدرا من الصلابة الأخلاقية في خطاباتهم في شأن الصواب والخطأ لكني أسأل ما هي القاعدة التي تتأسس عليها هذه الصلابة الأخلاقية، سنجد إشكالية كبيرة عندهم، إشكالية التبرير النفعي وهذا يفقد القيم الأخلاقية قمتها، لا مبرر للصلابة الأخلاقية وكأنهم يدافعون عن رؤى كونية مطلقة ينتقدون الممارسات الأخلاقية التي لا يميلون إليها، يبرز التناقض ما بين الرؤية الكونية الإلحادية وبين الممارسات الأخلاقية. 
 أعتقد أن الشباب لم يفهموا القضية بكاملها والشيخ يدرك ذلك فهو لم ينته وينهي حديثه وهم لا يعرفون إلى أين سيصل تعليل الشيخ تبقى المحاورة مذهلة. 
 المتدين يؤمن بالله ويؤمن بالدار الآخرة ويعتقد أن الإنسان محاسب على أفعاله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، بينما الملحد لا يؤمن بالثواب والعقاب الاخروي، لا يؤمن بوجود القيامة ولا وجود الله سبحانه وتعالى، التحليل مذهل والشباب يعرفون تماما قابلية الشيخ لكن الأمور أيضا تحتاج عندهم إلى توضيح، جميع هذه التحليلات ممكن عدم القناعة بها، ابتسم لهم وقال:  
- إن الأخلاق تتجاوز المادي كونها هي ليس لها أساس مادي بل معنوي الإيمان بها يعني الإيمان في المسائل الفكرية، في المسائل الغير مادية. 
أغلب الشباب يعجزون لو سالتهم عن القيم الأخلاقية المطلقة هل لها وجود أم لا بدل، ذلك هم يسالون كيف نتعرف على تلك القيم الأخلاقية كيف يمكن أن نتعرف على حسن الأخلاق من قبيحها ويبدو أن الشيخ أعد لهم الثقيل من الفلسفة وما هي إلا محاوله استدراج الشباب. 
شعروا بأنه أستعدل بجلسته وقال:
ـ أصدر (سام هارس) كتابه بعنوان (المشهد الأخلاقي) كيف يمكن للعلم التجريبي ان يحدد القيم الانسانية؟، قدم رؤية جاء فيها أن القيم الأخلاقية ترتقي بعافية الإنسان، وبما أنَّ العلم قادر على إخبارنا بما يحقق العافية فهو قادر على تحقيق القيم الأخلاقية الحسنة والقبيحة، الا تجدون معي قصور هذه الفكرة؟ 
 اصبروا معي قليلا أعرفكم على اليقين، أصدر الفيلسوف مايكل شرمر كتاب بعنوان علم الخير والشر وأصدر روبرت كتاب لماذا الجيد جيد وأصدر مارك هاوزر كتاب عقول أخلاقية، جميعهم تبنوا التصور الدارويني في تفسير الظاهرة الأخلاقية لا وجود لشيء اسمه قيم أخلاقية مطلقة وليس للأخلاق وجود قيمي حقيقي، مطلق الشعور الإنساني وليد الصدفة، دون أن يكون لها قيمة ذاتية حقيقية شعر الشباب بأنهم أجهدوا الشيخ لكنه مع هذا أصر أن يكمل حديثه ليختمه بكامل الدلالات العلمية، 
 فقال: 
- دوكنز، فضح المادية كلها بتصريحاته النارية التي كشف بها هشاشة النظرية الأخلاقية عندهم وأنا أتمنى لو كنت في صحة جيدة لشرحت لكم نظريته، لكني أعدكم أني سأشرحها لكم في وقت قريب. 
 وشكرهم على الزيارة فخرج الشباب من الزيارة وهم يتمنون لو أكمل الشيخ حديثه.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=202007
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 04 / 19
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 04 / 20