لم تعد المضايف العراقية مجرد رموز للضيافة وحل النزاعات، بل تحولت إلى غرف عمليات انتخابية تدير تحالفات وتنتج نواباً على أساس الولاء العشائري لا الكفاءة الوطنية.
فبين ضعف الدولة وتآكل المشروع المدني، تمددت العشائر من الفضاء الاجتماعي إلى قلب العمل السياسي، حتى باتت أداة لإعادة إنتاج المحاصصة وتعطيل دولة القانون.
كثيراً ما شكلت العشائر جزءاً أساساً من النسيج الاجتماعي العراقي، إذ أدّت دوراً تاريخياً في حماية المجتمع وتنظيم العلاقات الاجتماعية، غير أن التطورات السياسية بعد عام 2003 أدت إلى تحول واضح في وظيفة العشيرة، لتنتقل من الفضاء الاجتماعي إلى ساحة العمل السياسي، فتتحول المضايف من مجالس للضيافة وحل النزاعات إلى مراكز انتخابية تدير تحالفات وتنتج سلطات.
وفي العهدين الملكي والجمهوري كانت العلاقة بين الدولة والعشائر تراوح ما بين الاحتواء والمواجهة، حين عمل النظام البعثي برئاسة صدام حسين، خصوصاً في تسعينيات القرن الماضي، على إعادة تفعيل دور العشائر عبر “الميثاق الوطني العشائري”، في محاولة لتعويض ضعف الدولة إثر الحصار، ولبناء ولاءات قبلية تدعم النظام السابق.
انهيار مؤسسات الدولة
ومع انهيار مؤسسات الدولة بعد 2003 عادت العشيرة لتملأ الفراغ الأمني والاجتماعي، ومع اعتماد نظام ديمقراطي نيابي، أصبحت العشيرة أداة رئيسة في الانتخابات البرلمانية والمشاريع الانتخابية، بواسطة تقديم مرشحين بصفتهم ممثلين لعشائرهم، كذلك استخدام المضايف لاستقبال الوفود السياسية والتصويت الجماعي الموجه بناءً على الولاء العشائري لا على أساس الكفاءة أو البرنامج الانتخابي.
ونتج من ذلك أن باتت الأولوية للعشيرة وليس مؤسسات الدولة والقانون، وكذلك إنتاج نخب سياسية هشة عبر “التمثيل العشائري” لا عبر الكفاءة أو الشعبية الوطنية.
ويظهر تحول العشيرة في العراق من كيان اجتماعي إلى أداة سياسية عمق الأزمة في بناء الدولة ومؤسساتها، وفي ظل غياب مشروع وطني جامع تظل العشيرة لاعباً قوياً، لكنها في الوقت ذاته تعيد إنتاج المحاصصة واللااستقرار.
ويرى مراقبون للشأن العراقي أن الحاجة اليوم ليست إلى إلغاء العشيرة، بل إلى تحجيم دورها السياسي وتكريس دورها الاجتماعي، ضمن إطار دولة قانون ومواطنة.
من أجل الكسب الانتخابي
يرى الكاتب العراقي زيدان الربيعي أن “المجتمع العراقي بغالبيته ومن جميع مكوناته ذو طابع عشائري، إذ مهما ارتقى الإنسان العراقي علمياً ومادياً واجتماعياً يبقى مرتبطاً بعشيرته، لأنه دائماً ما يكون في حاجة إليها في السراء والضراء، ومن هذا المنطلق لم تخل عملية سياسية من العشائر، والشواهد هنا كثيرة ومتعددة، والدليل أن ثورة الـ20 التي طردت الاحتلال البريطاني من العراق في القرن الماضي أطلق شرارتها الأولى شيوخ العشائر، وامتدت لتصل إلى غالب المدن والقرى العراقية”،
وأضاف “بعد عام 2003 وعلى رغم أن العراقيين استبشروا بنظام ديمقراطي جديد كانوا يعتقدون أنه يخلصهم وينقذهم من حكم عشائري، قروي، مناطقي صرف، فإنه رهن غالب مؤسسات الدولة العراقية بيد من يقربون لأصحاب القرار فيه، وكانت المفاجأة كبيرة جداً، عندما لجأ الزعماء السياسيون الجدد إلى شيوخ العشائر من أجل الكسب الانتخابي، والدليل على ذلك أن كل المكونات السياسية التي تشكلت بعد سقوط النظام السابق كانت ركائزها تعتمد على المد العشائري وليس السياسي، مما جعل بعضاً من زعماء القبائل العراقية حاضرين في الجمعية الوطنية، ثم بالبرلمان الموقت”.
انقسام كبير
وتابع “بعد ذلك بات كثير من شيوخ العشائر يحرصون على المشاركة في الانتخابات النيابية من أجل الحصول على مقاعد داخل البرلمان، وهذا الأمر أدى إلى حصول انقسام كبير ومشكلات داخل العشيرة الواحدة، لأن أبناء العشائر من غير الزعماء انضموا إلى الأحزاب الجديدة، لذا فبعض منهم بدأ يتمرد على شيوخ عشائرهم سياسياً وليس عشائرياً، حتى إن بعض المرشحين من غير الشيوخ تفوقوا ووصلوا إلى قبة البرلمان، بينما شيوخ عشائرهم فشلوا في تحقيق هذا المبتغى بسبب الهيمنة السياسية على الشارع العراقي”.
وأردف “مع كل موعد للانتخابات يتوجه الزعماء السياسيون إلى شيوخ ووجهاء العشائر ويغدقون عليهم بالمكارم والامتيازات ويحلون بعض المشكلات في مناطقهم من أجل الكسب الانتخابي، وهي لعبة باتت مكشوفة لغالبية أبناء الشعب العراقي، لأن كثيراً من السياسيين يغطون في سبات عميق بعد نهاية الانتخابات، وما إن يقترب موعدها مرة أخرى حتى يظهروا من جديد، ناسين أو متناسين وعودهم السابقة”.
وأنهى بالقول “ما نتمناه حقيقة هو أن يكون صوت الناخب العراقي في الانتخابات المقبلة لمصلحة كل شخص يمتلك الكفاءة والنزاهة والحرص على مصلحة العراق، بغض النظر عن انتمائه العشائري والديني والإثني والعرقي والمناطقي، لأن المرحلة المقبلة تحتاج إلى الكفاءات المميزة، لا لخطابات زائفة لم ولن يحصل منها الشعب العراقي إلا على النفور وكثير من المشكلات”.
دور سياسي واجتماعي
الباحث القانوني والسياسي، خالد العرداوي، يقول إن “العشائر أدت على مر التاريخ العراقي دوراً سياسياً مهماً إلى جانب دورها الاجتماعي، وغالباً ما قصدها الساسة وعلماء الدين والأحزاب للحصول على الحماية أو الدعم، ولتحقيق أهداف سياسية أو غير سياسية”.
وعزا العرداوي السبب الذي جعل العشائر تؤدي هذا الدور إلى تأخر النهوض الحضاري والبناء المدني للدولة، نتيجة عقود طويلة من عدم الاستقرار الأمني والسياسي، وغياب سيادة القانون، وضعف فاعلية المؤسسات الدستورية، مما جعلها، أي العشائر، ملاذاً آمناً لمن يحتمي بها أو مناصراً سياسياً مفيداً لمن رغب بتوظيفها في مواجهة خصومه.
وحسب العرداوي فغالباً ما كان صوت العشيرة وقيمها يعلوان ويزداد تأثيرهما السياسي والاجتماعي عندما تضعف السلطة المركزية في العراق، سواء نتيجة غزو خارجي أو نتيجة صراع سياسي داخلي.
ونوه بأنه “ما نراه اليوم من دور كبير للعشيرة ليس مستغرباً على الإطلاق، بل يظهر طبيعة المرحلة التي يمر بها البلد، فضلاً عن فشل ساسته في القيام بدورهم المطلوب في تعزيز سلطة القانون، وتقوية المؤسسات الدستورية الرسمية، وإعلاء شأن مؤسسات وقيم المجتمع المدني على حساب مؤسسات وقيم المجتمع الأهلي التقليدي”.

|