"بهم أرتجي بلوغ الأماني يوم عرضي على الإله العلي"،
بهذا البيت البليغ ختم الشاعر الفارس، أبو فراس الحمداني، إحدى أروع قصائده، معلنًا عن إيمانه الراسخ، وعقيدته التي نسجتها محبته لأهل البيت عليهم السلام. وقد ابتدأها ببيت لا يقل جلالًا:
"لست أرجو النجاة من كل ما أخشاه إلا بأحمد وعلي".
إنها شهادة حب وولاء، نابعة من قلب شاعر عربي، عراقي، مسلم، عُرف بشجاعته وفروسيته، كما عُرف ببيانه وقوة شعره.
ابو فراس كنيته واسمه الحارث بن سعيد بن حمدان التغلبي، وُلد عام 320 هـ في مدينة الموصل، ونشأ يتيمًا بعد مقتل والده وهو في الثالثة من عمره. تولى تربيته ابن عمه الأمير سيف الدولة الحمداني، الذي لاحظ فيه منذ صغره ملامح الفروسية والنبوغ، فقربه إليه، وولاّه نيابة الشام في بعض فترات غيابه . وأصبح أمير منبج إحدى مدن الشام ..
لم يكن أبو فراس شاعرا فحسب، بل كان فارسا جمع المجدين: السيف والقلم. وفي طيات شعره، يتجلى حب عميق لأهل البيت عليهم السلام، حُب لم يكن شعارًا بل سلوكًا وموقفًا وعقيدة.
نشأ أبو فراس في كنف الدولة الحمدانية، التي تميزت بولائها العلوي، واعتدالها السياسي، وعنايتها بالعلم والأدب. وكانت حلب، عاصمة الدولة، حاضرة علمية كبرى، يفد إليها العلماء وطلاب المعرفة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
ومن أبرز من تأثر بهم شاعرنا، أستاذه النحوي الكبير ابن خالويه، الذي كان إمامي المذهب، كما صرح بذلك كبار العلماء والمحققين، كابن حجر الذي نقل عن ابن ابي طي فقال وفي كتاب ابن خالويه المعروف ب (ليس) ما يدل على ذلك وقد قال عنه السيد ابن طاووس: "كان إماميًّا، أوحد أفراد الدهر في كل قسم من أقسام العلم والأدب وكان اليه الرحلة من الآفاق وسكن بحلب وكان آل حمدان يكرمونه ".
كما مدحه النجاشي والسيد الخوئي في معجمه وغيرهما.
ومن أبرز قصائد أبي فراس في حب أهل البيت(ع) قصيدته الشافية الميمية والتي يقول في مطلعها:
"الدين مخترم والحق مهتضم ** وفيء آل رسول الله مقتسم"
في هذه القصيدة، التي نظمها ردًا على شعراء بني العباس، تتجلى عقيدته وموقفه. يعدد مناقب الأئمة الأطهار(ع) ويذكر مظلوميتهم، ويُظهر أحقّيتهم، ويهاجم الظلم العباسي الذي تجاوز كل حد حتى شبهه الشاعر بالظلم الأموي بل انكى من ذلك حيث يقول
"ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت ** تلك الجرائر إلا دون نيلكم"
ويذكر الشاعر في كل بيت من أبيات القصيدة أحقية اهل البيت عليهم السلام ومساوئ مناوئيهم فيقول
يولي أبو فراس يوم الغدير اهتمامًا خاصًا، ويعتبرها مفصلًا مهما في تاريخ الإسلام والأمة
"قام النبي بها يوم الغدير لهم ** والله يشهد والأملاك والأمم"
ويستمر الشاعر الحمداني في ذكر مناقب اهل البيت عليهم السلام في أبيات قصيدته هذه ويذم بني العباس ويذكر صفات العباسيين وبعدهم عن أخلاقيات الدين ويختم قصيدته هذه بالبيت الذي يؤكد أن مودة وحب اهل البيت عليهم السلام فرض من الله تعالى بقوله
صلى الاله عليهم اينما ذكروا لأنهم للورى كهف ومعتصم
وفي قصيدة أخرى يذكر الأئمة (ع) صريحا حيث يقول
شافعي أحمد النبي ومولاي * علي والبنت والسبطان
وعلي وباقر العلم والصادق * ثم الأمين بالتبيان
وعلي ومحمد بن علي * وعلي والعسكري الداني
والإمام المهدي في يوم لا * ينفع إلا غفران ذي الغفران
وفي قصيدة أخرى يقول ابو فراس الحمداني
لست أرجو النجاة من كلما * أخشاه إلا بأحمد وعلي
وببنت الرسول فاطمة الطهر * وسبطيه والإمام علي
والتقي النقي باقر علم الله * فينا محمد بن علي
وأبي جعفر وموسى ومولاي * علي أكرم به من علي
وابنه العسكري والقائم * المظهر حقي محمد وعلي
بهم أرتجي بلوغ الأماني * يوم عرضي على الإله العلي
ويقول في قصيدة طويلة بمدح الامام امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام منها هذا البيت
لو لم تنزل فيه إلا هل أتى * من دون كل منزل لكفاه
والواضح في أبياته هذه إيمان أبي فراس الحمداني بفضل مولانا الامام علي عليه السلام حيث يركز في كل بيت من أبيات قصيدته على ذكر المناقب العلوية
وفي نفس القصيدة ينتقل لذكر مظلومية الإمام الحسين عليه السلام، في لوعة شعورية مؤثرة
أظننتم أن تقتلوا أولاده * ويظلكم يوم المعاد لواه؟!
أو تشربوا من حوضه بيمينه * كأسا وقد شرب الحسين دماه؟!
ثم يختم الشاعر قصيدته ويؤكد أنه مؤمن بهدي النبي صلى الله عليه واله وسلم وبعترته الطاهرة عليهم السلام حيث يقول
يا رب إني مهتد بهداهم * لا أهتدي يوم الهدى بسواه
أهوى الذي يهوى النبي وآله * أبدا وأشنأ كل من يشناه
بهذا النفس الإيماني، يُسطّر أبو فراس حبه لأهل البيت لا كمجرد عاطفة، بل كعقيدة راسخة، مبنية على الوعي والمعرفة.
وهذه القصيدة من عيون الشعر العربي ومن القصائد الخالدة والعظيمة في ذكر اهل البيت عليهم السلام وفضائلهم وما جرى عليهم من حيف وظلم
ويظهر هذه القصيدة ان أبا فراس الحمداني كان محبا لأهل البيت عليهم السلام وعاشقا لنهجهم وسيرتهم مدافعا عنهم مؤمنا باحقيتهم وفضلهم يرجو شفاعتهم في الآخرة عاش عزيزا لا يخاف في الله لومة لائم وكان أميرا وفارسا وقائدا واديبا
وعلى الرغم من معاصرة أبي فراس للشاعر الكبير المتنبي، فقد حجز لنفسه مكانة مرموقة في الذاكرة الأدبية والتاريخية، وكان من أعلام الدولة الحمدانية، التي تصدت للبيزنطيين وكانت من أبرز الحصون الإسلامية في الشام والأناضول.
قال عنه الصاحب بن عباد: "بدأ الشعر بملك وخُتم بملك"، في إشارة إلى بدايته بامرئ القيس، وختمه بأبي فراس.
إن المتأمل في شعر أبي فراس الحمداني، لا يملك إلا أن يقف بإجلال أمام شاعر جمع بين الفروسية والإيمان، وبين القوة والرقة، وبين المجد والولاء. فقد كان محبًّا لأهل البيت(ع) مؤمنًا بمودتهم، ناصرًا لقضيتهم، شاعرًا بفكر، وفارسًا بعقيدة مخلصا لدينه..
رحم الله أبا فراس واسكنه فسيح جناته فقد قال فأبلغ وأحب فاخلص ومدح بصدق ووقف موقف العظماء وسطر بمداده ما خلده على مدى الدهور
توفي سنة 357 وضريحه معروف مشهور في مدينة حمص وأصبح مزارا ..
|