دون أي مقدمات استيقظت ليلتها، لا رنين منبه ولا صوت قطة ولا قرقعة شيء صلب يسقط على الأرض، بهدوء تام وغريب فتحت عيني، شعرت كأني سأظل مستيقظ طوال حياتي، كل ما حولي هادىء، مثل ميت دفن للتو وأصبح الصمت حديث لا ينتهي.
جلست على فراشي وفجأة سألت نفسي ما الذي كنت انتظره؟
أشعر بأنني أنتظر شخص ما، لكنني لم أكن قد تحدثت مع أصدقائي فأنا منذ أسبوع كامل أقفلت هاتفي وقررت أن أبتعد عن برامج التواصل وعن الهاتف بصورة عامة، وذلك بعدما جاءني خبر زواج البنت التي أحببتها، لقد انقطعت أخبارها عني فجأة، قبلها قالت أن هناك مشكلة عائلية ولم تود ذكر أي تفاصيل، استغربت ابتعادها عني وأعذار ليس لها مبرر كلما عاتبتها، ثم انقطعت تماما، هاتفها مغلق وحساباتها على برامج التواصل الاجتماعي لم تعد موجودة، وبعد شهرين تقريبا سمعت أنها تزوجت. كانت صدمة كبيرة، لم أصدق الخبر، حتى أكدت لي صديقتها المقربة ذلك، قالت أن الشخص الذي تقدم لها ميسور الحال ولم ترد أن تفوت الفرصة عليها، كرهت نفسي وعرفت كم كنت مغفل، أنا الذي خدعت بالمظاهر وعبرت علي كل القصص المفتعلة، لماذا لم انتبه لكل ما كانت تدعيه.
ظللت في صدمة نفسية بعد أيام من المعاناة والحزن والغم قررت أن أفكر في نفسي وأن ابتعد عن الهاتف والأصدقاء، فعزلت نفسي تماما.
خرجت من غرفتي ورحت أتجول في البيت كان الجميع نيام، شعرت بنشاط في جسمي لا هاتف ولا رسائل أرد عليها، ولا حبيبة أبرر لها تأخري أو عدم ردي، أصبح للوقت قيمة، فقد صار يمكثت طويلا ثم يذهب بكل هدوء، يشبه إلى حد كبير سقوط أوراق الأشجار، فليس هناك ورقة تنبت وتسقط مباشرة بل تأخذ دورتها في الحياة فتذبل شيئا فشيء حتى تفلت يدها من الغصن وتسقط هكذا كانت تمر اللحظات بكل جمال.
انساب في أذني صوت الآذان انسياب الماء على أرض جرداء، لأول مرة أشعر بوقع الآذان في روحي كنت أسمعه كل يوم دون أن أتوقف عنده، الغريب أن ترددات الصوت لها وقع عظيم كأني عرفت عودة أحدهم إلى الحياة، ما الذي يحصل لي، هل يعني ذلك إن هذا نداء لي أنا؟!
الغفلة تأخذ الإنسان لحظة لحظة حتى تنسيه حقيقة الأشياء فيصاب بعمى الألوان ويرى كل الأشياء رمادية لا لون يدعو للحياة، هكذا كنت قد فقدت لذة التقرب إلى الله لكثرة ما سمعت من الأغاني ولكثرة ما مضيت في الطريق الخطأ، الطريق الذي كان لا يجعل لنفسي قيمة حقيقية، فأصبحت أغضب لأي أمر وأكره أن يعارضني أحد، وأتحدث دون مراعاة لما أقول، نعم كنت صادقا في علاقتي ولا أكذب لكني أفلت زمام نفسي، فتركتها وحيدة في الظلمات التي كنت أظنها هي الحياة المثالية.
كل ذلك جعلني أنجرف إلى طريق الغفلة من حيث أعلم أو لا أعلم. انتهى صوت الآذان وفي نفسي رغبة كبيرة للصلاة التي قطعتها منذ سنوات، لقد تهاونت بها إلى أن تركتها وما عاد ضميري يؤنبني لذلك الهجران.
لكني الآن أريد أن أصلي أشعر بالعطش إلى التحدث مع الله، ذهبت وفتحت صنبور الماء لأتوضأ، شعرت أن هناك من ينتظرني، وأنا أغسل وجهي عادت الذكريات، ورجعت إلى تلك الروح الصادقة، كنت أريد أن أصلي حبا لله، لا ليراني أحد ولا لنفسي.
مضى وقت طويل كأنه الدهر وأنا أفتقد هذا النقاء، الآن صرت متزن وأعرف الطريق جيدا، كأني خرجت من حفرة لا هواء فيها.
رجعت إلى غرفتي وشرعت في الصلاة، لقد نجوت حقا، قلت ذلك في نفسي، أدركت كم كنت في ضياع، لقد بخست حق نفسي كثيرا، يجب علي أن أنطلق الآن فما هي الخطوة القادمة، لماذا أشعر أني على موعد مهم، انتظر من، ومتى ألتقيه، يجب أن لا أتأخر عن الموعد، علي أن أخبره بذلك أريد أن أراه، سالت دموعي شوقا، لا أدري لماذا، من ذلك الشخص الذي أبكيه، تزاحمت الأفكار، رفعت يدي بالدعاء ودون سابق تفكير قرأت دعاء الفرج، بمجرد ما نطقت به أدركت أنه ينتظرني.
كنت في تلك العزلة أتخطى كل العقبات في طريقي، أصدقاء واللهو معهم، حبيبة ورغبة في أمور محرمة، سماع الأغاني، عدم وضع قيمة لعملي فأتغيب عن وظيفتي، أسهر في الليل وأستيقظ وقت الظهيرة، حتى جسمي لم أعطه حقه من التغذية الصحية فصرت آكل في أوقات غير منتظمة ولا يهمني أمضر ما أتناوله أم لا. كان لدي الكثير من التطبيقات والدردشات وجميعها شغالة، لقد جعلت من نفسي شخص بلا قيم ولا اتزان كل هذه كانت أمور معتاد عليها في مجتمعنا لكنها أبعدتني عن نفسي فنسيت الله ورسوله وأهل بيته، نسيت الإمام المنتظر، شعرت بكل جسدي يرتجف وأنا أبكي وأردد مناجاة التائبين.
* * *
كانت فرحتي لا توصف وأنا أنشر أول مقالة لي عن "فلسفة الانتظار"
صرت النفس التي تعلم ما تريد، لا تهزني ملذات الدنيا، ولا يلهيني شيء عن تأدية واجبي أمام الله ورسوله، ما أعظم أن أعيش أيامي وهناك من ينتظرني أن أنجح في حياتي وآخرتي، ينتظرني بكل حال ومهما كنت بعيدا عن الطريق فهو يدعوني أن أنتبه وأتعلم.
لقد عرفت نفسي وصرت أرى الأشياء بوضوح فكلما تأملنا في أنفسنا أكثر عرفنا عيوبنا، لقد انزاحت الحجب التي أبعدتني عن الحقيقة.
رتبت كل شيء وأخذت ما أحتاجه في الطريق، حقيبة فيها ملابسي وراية وهاتف خال من كل شيء يبعدني عن الله، أخذت دفتري وكتب في الصفحة الأولى "عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال وهو يتشوق الإمام المنتظر: لو أدركته لخدمته أيام حياتي."
وضعته في الحقيبة وحملتها ثم خرجت من البيت متوجها إلى كربلاء مشيا على الأقدام وأنا أقول أتيتك يا إمامي المهدي لأجدد العهد إليك عند جدك الحسين مع خالص الانتظار.
|